شعار قسم مدونات

فرصة أخرى

blogs صلاة

الآن وقد فقدت عدة أشخاص أحببتهم وأصبحت أخبار الموت تذاع في كل الأوقات، تساءلت مع نفسي هل سيبلغني الله رمضان القادم؟ أم أن ما بقي لي في رصيدي من أيام لن يكفيني حتى لصيام رمضان الحاضر؟ وهل ستكون هاته الليالي آخر عهدي بالدنيا؟ وإن كانت هي الأخيرة فماذا يخلق بي أن أفعل فيها؟

كثيرون توفوا قبل رمضان، بعضهم بأيام وبعضهم بساعات، وبعضهم الآخر بأسابيع، لم يُكتب لهم صيامه، ولم يُكتب لهم تحصيل الخير المتدفق منه أنهارا، لم يُكتب لهم أن يستنشقوا نفحاته المباركة، ولا أن يستمتعوا بصوت آذانه الروحاني الذي يخترق صمت الكون مغربا وفجرا، لم يكتب لهم أن يصطفوا خاشعين لصلاة التراويح والتهجد، كثيرون حرموا خيره، فلم تتحرك ألسنتهم بالذكر، ولم تلهج شفاههم بالدعاء، ولم تذرف أعينهم دمعات الندم والحسرة على ما فرطوا فيه بجنب الله، كثيرون ماتوا ولم يكتب لهم التعويض فيه، لم تكتب لهم توبة جديدة نصوحة لا يتبعها ذنب آخر، ومغفرة ليس بعدها خطيئة، وعفو ليس بعده عفو من لدن العفو الكريم.

كثيرون رحلوا وقد أضاعوا ثواب صيام رمضان الذي مضى، ولم يهب لهم الله فرصة ثانية، سأرحل مثلهم ذات يوم، لكنني أخشى أن يدركني الموت قبل أن أدرك أنا رحمة الله الواسعة، فأقعد ملوما محسورا على ما فرطت في جنب الله في وقت الرخاء، فهل أمعن النظر قبل فوات الأوان في حقيقة هاته الدنيا وأعطيها الحجم الذي تستحقه، أم أنساق وراء بريقها الزائف وزخرفها الخادع، وأضيع بين مغرياتها؟
 

هناك أبواب كثيرة للتعبد غير الصيام والصلاة وجمع الأموال للحج، وأني لأشفق على أولئك الذين يلزمون المساجد، والذكر، وبرقابهم علقت مظالم جليلة، يسبون هذا ويخاصمون ذاك ويؤكلون أموالهم بينهم بالباطل

الدنيا أهون عند الله من جناح بعوضة، وأعز على البعض من بنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تئويه، وكل شخص يتعامل مع وجوده فيه بحسب ما يريد أن يُحصّل منها، قد يكون رمضان آخر فرصة للبعض، وقد يكون أول فرصة للبعض الآخر، وعن نفسي أريده أن يكون كرحلة روحانية إلى ما وراء العالم المادي، أبتغي منها انعتاقا من الغرق في نهر الدنيا القذر الذي لا ضفاف له، ولا زوارق نجاة، والذي يحتضر فيه كل فرد وحيدا، دون أن تسطع عليه الشمس من جديد، وأن يكون فرصة جديدة، وبداية مختلفة عن كل البدايات.
 

سأنسج فيه خيوط علاقة متينة مع الله، علاقة تصلني بعنان السماء ولا تنتهي بانتهاء رمضان بل تستمر إلى أن يأتيني اليقين، علاقة لا تقوم على مجرد عبادات يحضر فيها الجسد وتغيب فيها الروح، فالله موجود بكل مكان ولا يجب قصر الارتباط به على القيام بالعبادات المفروضة الخمسة فقط، فدين الله يشمل كل مناحي الحياة، والعبادة تكون أيضا بمخالطة الناس بخلق حسن، وبالإصلاح بينهم، بالكلمة الطيبة، بالتفقه في الدين، بنشر الحب، ونبذ العنف، بالإخلاص في العمل، بالإنفاق….

هناك أبواب كثيرة للتعبد غير الصيام والصلاة وجمع الأموال للحج، وأني لأشفق على أولئك الذين يلزمون المساجد، والذكر، وبرقابهم علقت مظالم جليلة، يسبون هذا ويخاصمون ذاك ويؤكلون أموالهم بينهم بالباطل، ويفنون أعمارهم في الحسد والكره والغيبة، ثم يصلون بضمير مرتاح، ويخرجون من صلاتهم وهم يظنون أن الله غفر لهم، ما هكذا تكون العبادة الحقة، لو علم هؤلاء القوم أن أفضل الناس أحسنهم خلقا، لتخلقوا بأخلاق القرآن ولصلح حالهم وحال الأمة، لكننا للأسف لم نأخذ من الدين غير القشور، وغير المظهر، وأغفلنا الجوهر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.