شعار قسم مدونات

مهرجان لهو الحديث

blogs - قرآن

لا أحاول في هذه التدوينة الدخول في نقاش حول الموسيقى بين من يحرمها وبين من يحللها، إنما أحاول أن أعود إلى لهو الحديث الذي تفنن النضر بن الحارث في صناعته وهو يجول في بلاد العرب والعجم باحثا عن نكت وقصص ينافس بها قصص القرآن الكريم.
 

تحكي كتب التفسير والسيرة أن النضر بن الحارث " كان يسافر في تجارة إلى بلاد فارس فيتلقى أكاذيب الأخبار عن أبطالهم في الحروب المملوءة أكذوبات فيقصها على قريش في أسمارهم ويقول : إن كان محمد يحدثكم بأحاديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث رستم وإسفنديار وبهرام". فنزل فيه قول الله عز وجل: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِين. ٌوَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا ۖ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" سورة لقمان 6-7 .
 

نزلت في النضر بن الحارث آيات كثيرة، فقد عرف بعناده ومجادلته للنبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من موضع، وكان يدعي أن ما ورد في القرآن الكريم عبارة عن أساطير الأولين، وتبنيه هذا الاتهام راجع لأنه مجاله المفضل الذي يتقنه، ولا غرابة أن يعتبره أعداء الدعوة الإسلامية رمزا من رموزهم الكبيرة.
 

لو اهتم العلماء بقصة النضر بن الحارث كسبب لنزول الآية أكثر من اهتمامهم بقول عبد الله بن مسعود بأن الآية نزلت في الغناء لكان المسلمون الآن أرفع ذوقا وأكثر التزاما من حيث الأخلاق، وكانوا أقل سؤالا عن الموسيقى أحلال هي أم حرام.

حاول النضر بن الحارث تشكيل أذواق تتلذذ بالقصص والنكت في مجالس تشبه شاشات تخترق الزمان والمكان، فكان يواجه كل آية تدعو للتصالح مع الذوق الرفيع والكلمة الطيبة بنكتة ورقصة مغنية طلب منها أن ترقص على مآسي الناس دون أن تفهم لماذا يتجاوب معها من أسكره الخمر غير مبال لما ينتظره في الصباح في مجتمع طبقي بامتياز. كانت مجالس ابن الحارث أشبه بمهرجانات يستدعى لها من كل بقاع الأرض من يغني بلغة لا يفهم منها من يسمعها سوى شعوره بنشوة عابرة يعتقد صاحبها أنه الغذاء الذي ينقصه والذي ينتظره كل سنة وكل موسم حتى أضحت كلمة "مهرجان" في مخيلة الناس هي السهر الماجن الذي تنتظره المدينة كل عام، وهو المعنى الذي شكله الغناء الذي طغى على مجالس ابن الحارث عند كثير من الناس.
 

إن لهو الحديث الذي أراده النضر ونقله عبر مهرجانات وليالي سمر كان الهدف منه هو منافسة المجالس الجادة وعمق الكلمة والغاية السامية من قصص القرآن لأنه عندما تضيع الأذواق ويتشوه المعيار الفطري للجمال والفن عندئذ يسهل استساغة وتقبل كل شيء.
 

سعى القرآن المكي إلى صياغة جديدة للذوق العام بشكل يربط الإنسان بربه ويتصالح فيه مع الفطرة السوية، وهو ما كان يحاربه النضر بن الحارث ليس بقوة السلاح ولكن بميوعة الكلمة التي تضل عن سبيل الله وتؤسس لذوق لامعنى له ولجو عام لا يستطيع أن يتخيل فيه الغناء إلا بوجود راقصة ومغنية وكؤوس خمر وقصص لامعنى لها، ولعل هذا ما كان حاضرا في فهم عبدالله بن مسعود للهو الحديث الذي ذكرته الآية وتبناه النضر بن الحارث في مهرجاناته.
 

لو اهتم العلماء بقصة النضر بن الحارث كسبب لنزول الآية أكثر من اهتمامهم بقول عبد الله بن مسعود بأن الآية نزلت في الغناء لكان المسلمون الآن أرفع ذوقا وأكثر التزاما من حيث الأخلاق، وكانوا أقل سؤالا عن الموسيقى أحلال هي أم حرام. وحتما لن يحتاجوا لفتوى على رأس كل قصيدة ولحن.. وربما كانوا أقدر على التمييز بين ما هو لهو الحديث الذي يرفضه الذوق السوي وبين ما يروح به المرء عن نفسه في إطار المباح الشرعي.

الحياء قبل أن يكون قطعة قماش هو خلق، والغناء قبل أن يكون شعرا ولحنا هو رسالة نحن من يحدد شكلها، إما أن تتوافق مع الفطرة السوية أو تنهل من إرث النضر بن الحارث.

إن القرآن المكي هيأ الأرضية للقرآن المدني كي يشرع من الأحكام ما يحفظ الذوق العام القريب إلى الفطرة، فالخطاب القرآني في مكة أسس لمفاهيم عميقة في البناء الانساني الذي هو العمود الأساسي في البناء الحضاري وسما بالإنسان عاليا من جوانب متعددة. فكلما كان الإنسان أقرب إلى خالقه إلا وكان منسجما مع نواميس الكون تفاعلا وإبداعا. إن الابتعاد عن الله يؤدي إلى الإبداع في الطريق الخطأ، وكلما غاص الإنسان في طريق غير طريق التناغم الكوني إلا كان إنتاجه مدمرا للذوق والجماد والعباد.

إننا أحوج ما نكون إلى قراءة القرآن المكي من جديد وقراءة قصصه من باب بناء الذوق الرفيع والسمع السليم والاتعاظ المطلوب في وقت كثرت فيه مجالس النضر ابن الحارث وأصبح كل بيت بمثابة زاوية من زوايا هذه المجالس بسبب القنوات الفضائية التي نقلت إلينا إرث ابن الحارث بدون استئذان.

في بعض الأحيان يشخص الطبيب المرض وعند تقديمه لوصفة العلاج ينصح بتقوية مناعة الجسم كي يتخلص من المرض بدل معالجة المرض مباشرة، وهذا ما يجب أن يتبناه المجتمع في التخلص من كل ما يؤثر فيه سلبا. إن الحياء قبل أن يكون قطعة قماش هو خلق، والغناء قبل أن يكون شعرا ولحنا هو رسالة نحن من يحدد شكلها، إما أن تتوافق مع الفطرة السوية أو تنهل من إرث النضر بن الحارث.

كلما ابتعدنا عن لهو الحديث بمفهوم النضر بن الحارث وورثته فإننا نقترب بخطوة نحو "إذا دعاكم لما يحييكم" بمفهوم القرآن الكريم وهذا هو الرهان الأصعب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.