شعار قسم مدونات

ليالي الوجع.. صفحات من الذاكرة

blogs حزن

لست أدري ما الذي يعذبني كل ليلة هذا العذاب الشديد؟ أحس بأني أختنق..! ترتعد أطرافي..! يصيبني الهلع..! أحس بأني أموت الآن..! أصارع من أجل أن أنام..! أحاول طرد هذه الأفكار التي تأسرني، لكن ليس بيدي حيلة، ففكرة الفناء تقتل فيَّ كل إحساس جميل..! أغوص في تأمل الحياة وغرابتها فأخرج بنتيجة مفادها أن هذا الوجود تافه! نولد وفق ما اتفق، ثم نكبر، ثم نموت مجددا…

ما جدوى كل هذه الأبنية وهذه الزخارف؛ إن كنا في نهاية المطاف سنرحل عن هذا الوجود؟ أفكار كهاته كانت تزيد من رعبي، خصوصا في ليالي البادية الحالكة الظلمة. صمت رهيب قد يقطعه بين الفينة والأخرى نباح كلب أو صياح ديك؛ يطرق أذني طرقا قويا فيذكرني بأني لازلت على قيد الحياة، وأني لازلت أتنفس، وأسمع صياح الدِّيَكة ونباح الكلاب. لكنه صوت غير مطمئن البتة، وإنما هو صوت مرعب كل الرعب، لأنه يذكرني أيضا بأني أموت ببطء.
 

وحدي… في غرفتي المظلمة الصامتة صمت القبور، تجول الأفكار وتصول في رأسي. أحس بغربتي، أحس بخوفي ورهبتي. لا أخفيكم أن اعترافي بخوفي الآن؛ هو من قبيل سطوة القلم ليس إلا.. لأن شعور الخوف من المشاعر التي يأنف الناس أن يشاركوها، رغم أن أغلبنا يخاف كل ليلة_هذا طبعا_ إن كان الناس مثلي يخصصون وقتا للتأمل في الوجود و المآل. وها أنا ذا أتعذب، ليس العذاب المادي الذي قد يتبادر إلى الذهن، لكنه عذاب الروح الذي يكون أشد وقعا.. عذاب رهيب لا يمكن وصفه البتة! خصوصا عندما يستيقظ الضمير بعد منتصف الليل، ويكون المرء وحيدا، وجها لوجه مع حقيقة نفسه. لا مجال هنا للكذب والطلاء.. إنها ساعة الحقيقة، ساعة الاعتراف، ساعة يقف فيها الضمير ممسكا بعنقك محاولا خنقك. الآن تتحطم كل أبنية الزيف. وها أنا ذا أقف عاريا أمام نفسي محاولا فك شيفرة خوفي ويأسي وإخفاقي المتكرر.
 

أنظر لشريط حياتي فأدرك أني تافه، مجرد نكرة، لا أصلح لأي شيء، فاشل على كل المستويات. لم أحقق إنجازا واحدا في هذه الحياة. كل ما أتقن فعله هو الأكل والنوم والتدخين

هذا المساء أفرطت في التدخين لدرجة أنني جئت إلى المنزل متلمسا طريقي في الظلام، رغم امتلاكي مصباحا يدويا، فمفعول الكيف قلل من فعالية حاسة بصري.. في كل مساء أفرط في تدخين الكيف عمدا حتى أنام بمجرد أن أضع رأسي على وسادتي. لكن الحيلة لا تنجح في كل مرة.. وهذه الليلة لم تنجح، وها أنا ذا أتعذب! أحيانا أتخيل النوم بمثابة صخرة كبيرة.. فأطلبه وأحاول التحايل عليه حتى يأتيني.. أحاول التهرب من كل الأفكار التي تراودني. لكن بمجرد أن يأتي أحس بتلك الصخرة هوت على راسي فحطمتني.. فأستيقظ مذعورا! وهكذا يتكرر الأمر معي ليال عديدة وفي كل ليلة حلقة جديدة من الصراع المرير مع النوم.

أنظر لشريط حياتي فأدرك أني تافه، مجرد نكرة، لا أصلح لأي شيء، فاشل على كل المستويات. لم أحقق إنجازا واحدا في هذه الحياة. كل ما أتقن فعله هو الأكل والنوم والتدخين.. وتلك مصيبة كبرى؛ أن يتأمل المرء حياته ونفسه فيجد أنه مجرد طاحونة للأكل، والنوم، والكيف، والفراغ القاتل…

لا أخفيكم أحبابي أن ليالي العذاب هذه طالت، فما عدت أستطيع الاستمرار أكثر. وصلت إلى درجة اليأس.. ربما كان لغيري إذا بلغ ما بلغته أن يفكر في الانتحار، وإنهاء حياته حتى يتخلص من كل هذا الوجع. لكن فكرة الانتحار لم تكن تراودني مطلقا، فقد كنت مسلما، وكنت أعتقد بحرمة قتل النفس.. فكان لزاما علي أن أبحث عن مخرج لما أنا فيه من العذاب. لكن التطبيع سلاح فتاك، فعندما يتطبع الإنسان مع عادات سيئة فإنه من الصعب عليه أن ينفك عنها بسرعة.

 

وكذلك كان يحدث لي، كنت أجد نفسي غارقا إلى الأذن في مستنقع الرذيلة، لدرجة أني ما عدت أستقذر فعلا ولا تصرفا ولا عادة. وتلك نتيجة التطبيع والتفلت من كل خلق كريم. فلم أعد أزن الأمور لذلك أصبحت أتصرف مثل الشيطان، لا حدود لمكري، أفعل كل ما يخطر ببالي ولا أبالي.. إلى أن يأتي الليل فأِؤدي ثمن ما اقترفته أضعافا من العذاب النفسي والروحي كأني كنت أقف على حافة الجنون، ففي داخلي من يأمر وينهى ولست أدري أيهما أتبع.
 

مع توالي الأيام تتراكم صفحات العذاب والألم فوق بعضها، فيخفت النور الذي ينير دروب الحياة تدرجيا، حتى أن النهايات لتكاد تسبق أوانها.. لكني كنت ألمح شعاع الأمل من بين كل هذا الظلام يتسلل فيقول لي إنه من الممكن فقط حاول.

لم أكن أتوقع يوما ما أنه بوسع فكرة ما أن تدمر الإنسان، وأن تقيده، وتزج به في زنازين الفكر المظلمة. فلا عدوّ للإنسان أكبر من فكرة مقيتة، تستحوذ على وجدانه وتحركه في طريق نهايتها أن يتخلى عن إنسانيته. وتلك حقيقة تتجلى أمام بصائر العارفين إذا ما أمعنوا النظر. أليس الشر كله عبارة عن أفكار يؤمن بها مستبد، أو قاتل، أو مغتصب، فيحولها إلى سلوك يأتي بكل هذا الألم المشاهد في دنيا الناس؟ 

هي إذن أفكار فقط، مجرد أفكار، لكنها قنابل موقوتة كانت نتفجر في ليلي فيحول ضجيجها، ليلي الصامت إلى ضوضاء يستحيل معها النوم. كأنها صفارات إنذار تصم الآذان.. أصبحت أدرك الآن أنها كانت تحمل رسائل في قمة الجمال، وتضع أمام العين ألآلاف من علامات الاستفهام. نعم شيء ما داخل الإنسان يظل حيا، يومض ومضات صغيرة، ويطلق إشارات تدل الإنسان على الطريق التي لو اتبعها لنجا ولو أغفلها، أو لم يحسن قراءتها لهلك.

هكذا كانت تمر أيامي بين ليل الوجع، ونهار لست أدري كيف كان يمر. المهم أن الزمن كان يطوي نفسه طيا.. ومع توالي الأيام تتراكم صفحات العذاب والألم فوق بعضها، فيخفت النور الذي ينير دروب الحياة تدرجيا، حتى أن النهايات لتكاد تسبق أوانها.. لكني كنت ألمح شعاع الأمل من بين كل هذا الظلام يتسلل فيقول لي إنه من الممكن فقط حاول…

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.