شعار قسم مدونات

خمس ليرات

blogs - coins

كانت متعتي لا تضاهيها متعة أثناء تعليم طلاب الصف اﻷول الابتدائي. ذات صباح كنت أكتب على السبورة، قبيل انتهاء الحصة الدراسية بدقائق عشر، عندما نكزتني من دون مقدمات، يد طالبة من الخلف: أستاذ.. أستاذ.. وجدت هذه تحت المقعد، وناولتني قطعة معدنية من فئة الخمس ليرات، فقلت لها: أحسنت يا ابنتي ما اسمكِ؟ كان اسمها واحداً من تلك اﻷسماء الرائجة والدارجة والطنانة والرنَّانة التي اعتاد الناس على تسمية أبنائهم وبناتهم بها، تلك اﻷسماء التي لا تعلَق في الذاكرة بسهولة كما تعلق أسماء "قحطان وحنظلة وكلاب وثور وجحش وعشرقة وجهينة" والتي كانت سائدة وأشهر من نار على علم في زمن خلا من أزمان الأُمَّة الخالية!

 

أخذتُ منها قطعة النقود، وقبَّلت -في عقلي الباطن- يدها، شاكراً إياها حُسن أخلاقها وتربيتها، وطلبت من بقية زملائها في الصف أن يصفّروا ويصفّقوا ﻷمانتها بنفس الحرارة التي صفّرت وصفّقت فيها الجماهير العربية من المحيط إلى المحيط للرئيس الراحل جمال عبد الناصر بُعيد إلقائه لخطاب تأميم قناة السويس، فصفّر طلابي، وصفقوا، وكبّروا، وهلّلوا يا..! عادت الطالبة إلى مقعدها، وتوجهتُ بالسؤال لتلامذتي: لمن هذه الليرات الخمس؟

 

أريد حلا عادلا ينقذني مما أنا فيه.. حلاً يخرجني من المأزق الذي لا ناقة لي فيه ولا جمل.. حلاً للورطة التي باغتتني على حين غرة

توقعت ألاَّ يجيب أحدٌ على السؤال قبل أن يتفقد ما بحوزته من نقود، لكنني ما كدت أنهي السؤال حتى هبوا واقفين على أقدامهم أكثر من ثلث التلاميذ، ورفعوا أصابعهم وأياديهم، وكلٌّ منهم يدَّعي أنَّ هذه الليرات الخمس ملكه وحده لا شريك له! كان المدّعون من الجنسين، وكانت الغالبية العظمى منهم من الذكور. كانت مقاعد البعض ممن ادّعوا أنها ملكهم بعيدة عن تحت المقعد حيث وجدت القطعة المعدنية بعد المشرق عن المغرب.

 

دبَّ الخلاف بين أبنائي وبناتي، وساد الهرج والمرج و"الحيص بيص"، واختلط الحابل بالنابل. استعان البعض منهم بالله وباﻷنبياء وبالأولياء الصالحين، وآخرون استعانوا بالكتب السماوية وبأغلظ اﻷيمان لتأكيد ملكيتهم لها، والبعض اﻵخر بدأ بتكذيب البعض اﻵخر مستعينين ببعض شهود العيان من زملائهم الذين لم يدّعوا أنها ملكهم! أما البقية الباقية من هؤلاء الأبعاض فوقفوا على الحياد وآثروا عدم الانخراط في فتنة الليرات الخمس.

 

أحدهم بدأ بالبكاء وإحداهنَّ بدأت تروي لي بالتفصيل كل المراحل التي مرت بها منذ ليلة الأمس وكيف نامت، وبماذا حلمت، مروراً باللحظة التي أيقظتها فيها أمها من النوم صبيحة هذا اليوم، وإعطائها مصروفها اليومي (الخرجيّة) ووصولا إلى ما وصلنا إليه! أُسقط في يدي، وَوَقَعْتُ في حيرة شديدة من أمري وتمنيت لحظتها لو يكشف عني الحجاب أو أن أكون عالما من علماء الضرب بالرمل والودع وكشف المستور على أقل تقدير.

 

أريد حلا عادلا ينقذني مما أنا فيه.. حلاً يخرجني من المأزق الذي لا ناقة لي فيه ولا جمل.. حلاً للورطة التي باغتتني على حين غرة.. حلاً يُعيد الحق لأصحابه الشرعيين.. حلاً يسعفني ويرضي الجميع، وكفى الله المؤمنين القتال. لم أجد! فعزمتُ على التسويف والهروب إلى اﻷمام فقلت لهم: فليبق في الصف عندما يحين موعد الاستراحة كل من يدّعي أن هذه الليرات الخمس ملكه وحده لا شريك له ودعونا اﻵن نعود لمتابعة الدرس. وقد عُدنا بالفعل، لولا أنَّ جرس الاستراحة رنّ بصوت يكاد يخرم آذان السامعين قائلاً: انتهى الدرس يا غبي لا للعودة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.