شعار قسم مدونات

الانتخابات وقرص الأسبرين

مدونات - انتخابات

يا سادة يا كِرام، سأقصُّ عليكم حكايةً أرغب يوماً أن أراها تتكرَّرُ في بلادنا، ففي شهر أيّار من العامِ ٢٠٠٧ هاتفتني حبيبتي في ذاك الوقت تسألني ألّا أرتبط بأيَّةِ مواعيدَ خلال عطلةِ نهاية الأسبوع حتّى أصطحبها إلى مركزِ التّصويت، لتدلي بصوتِها خلال الانتخابات الرِّئاسيَّةِ الفرنسيَّةِ. كان حينها المرشَّح اليميني نيكولا ساركوزي في مواجهةٍ عنيفةٍ مع سيغولين رويال المرشّحة اليساريّة.

  
وبالفعل، استيقظنا في الصّباحِ الباكرِ، وتوجّهنا مباشرةً إلى المدرسةِ الابتدائيّةِ المُلاصِقةِ لمنزلها والّتي تحوَّلَت في ذلِك اليوم إلى مركزٍ للاقتراع. وصلنا في السّاعةِ الحاديةَ عشرَ صباحاً، لم أصدِّق حينها ما رأته عيناي، طابورٌ بشريٌّ طويلٌ، مؤَلَّفٌ من أكثرِ من مئةِ شخصٍ من مُختَلفِ الأعمارِ والألوانِ والأعراق. كلُّهم ينتظرونَ وبكلِّ كبرياءٍ أن يحينَ دوره ليُغيَّر من مستقبلِ بلاده. شعرتُ بخجلٍ كبيرٍ، فأنا السُّوريُّ (آنذاك) لا مكان لي في بينَهم، وقفتُ على ناصيةِ المدرسةِ وطلبتُ من حبيبتي أن تصطفَّ في الطّابورِ وحدَها. لم أعرف لماذا ولكنَّني شعرتُ ولسببٍ ما أنَّني لا يجب أن أصطَّف معها، فهذا ليس من حقِّي. شعرت بدنويَّةٍ غريبةٍ لم أشعر بها من قّبلُ مُطلَقاً.

  
نظرت إلى أحد الأشخاص وكانَ زَيُّهُ شعبياً يرتديه الأفغانُ والباكستانيّون عادةً، كانَ واضِحاً أنَّه من أصولٍ أفغا-باكستانيّة. وكانَ واضحاً أنَّه لم يرمِ بجذورِهِ في القمامة ليصبحَ فرنسيّاً، ولكنَّه كانَ مصمِّماً على ممارسةِ حقِّه في التّصويتِ كفرنسيّ. وراءه كانت تقف تلكَ المرأة الّتي تجاوزَ عمرها الثَّمانين على ما أعتقد، مُتكئة على يدِ ابنتها -لو كان عمري ثمانونَ عاماً لجلستُ في بيتي فماذا بقي لي من العمر لأعيشَه وأحاول تغييره؟- شعرتُ مرَّةً أخرى بالخجلِ فأنا لست مستعدّاً لفعلِ ما تفعله هذه السَّيِّدة. فجأةً أسرَعَ أحد المتطوِّعين -وكان من أصولٍ مغربيّةٍ- باتّجاه السَّيِّدة المُسنَّة، وسألها أن ترافِقَهُ مباشرَةً إلى مركز الاقتراع دونَ الانتظارِ في الدَّورِ نظراً لسِنِّها.  أدرتُ وجهي، وأنا أتذكَّر كيف كُنَّا نقترعُ في سوريا، أذكرُ أنَّ بعضَ المراكزِ الانتخابيّةِ في دمشق كانت تُوزِّع شفراتِ حلاقةٍ لنُدمي أباهِمَنا ونصوِّت بـ "نعمٍ" مكتوبةٍ بدمائنا. وأذكر أنَّنا لم نحصل لا أنا ولا والدِي على حقِّ التّصويتِ السِّرِّي، فشعرتُ بالذُّلِّ مرَّةً أخرى، وعصفت في ذاكرتي وفي نفس الوقت أغنيةُ "أنا سوري آه يا نيّالي" فشعرتُ بذلٍّ أكبر.

   undefined

 
دخلت حبيبتي المركزَ، وأنا ألتهم السّجائرَ متتاليةً، علّ حريقَ التّبغِ في رئتي يُطفئُ نارَ الذُّلِّ الّتي شعرتُ بها آنذاك. خرجَت بعد حين، فسألتها اشرحي لي كيف صوتي؟ حاولي أن تجعليني أعيش تجربتكِ، كنت أقولها كطفلٍ صغيرٍ يريد أن يعرفَ كلَّ شيءٍ، فشرحت لي باقتضابٍ: "سلَّمتُ هويّتي للتّأكُّدِ من أنَّني مُسجلَةٌ على لوائحِ النّاخبين، ثمَّ طُلب إليَّ أن آخذَ أوراقاً كُتِبَ على كلِّ ورقةٍ منها اسمَ مُرشَّحٍ مختلفٍ، ولم يُسمح لي أن آخذَ ورقةً واحدةً عليها اسم مرشَّحِي المُفضَّل فقط. ومن ثمَّ دخلتُ إلى غرفةٍ صغيرةٍ مزوَّدة بستارة، أغلقتُ السّتارة ووضعت اسم المرشَّحِ الّذي اخترته في الظّرفِ وألقيتُ باقي الأوراقِ في سلّةِ المهملات هناك، بعدها خرجتُ ووضعتُ الظَّرفَ المُغلقَ في صندوقٍ شفّافٍ، وها أنا الآن أمامَك، وسنعرفُ النّتيجةَ عند الثّامنةِ مساءً".

  

سألتها ولمن صوَّتِّي؟ فعمَّ الصَّمت البلاد، ونظرت إليّ بعينينِ تقدحانِ شرراً، وكأنّها كانت تقول لي "أعد السّؤال إن كنتَ متعبٌ من الحياة". وقالت لي: "ما هذا السّؤال؟!! طبعاً لن أقول لمن صَوَّت، هذا أمرٌ لو كنتُ أريدُ مشاركته لتركتُ السّتارَةَ مفتوحةً". ثمّ تابعت: "لا أعرفُ لمن صوَّت والدي أو والدتي، أو إخوتي، يمكنني التّنبؤ، لكنَّني أعتبرها خصوصيّةً مهمّةً، ولن أشاركَ صوتي أحداً، حتى ولو كان ذلك الشّخصُ هو أنتَ يا من ملكَ قلبي وعقلي، لكنك دونَ شكٍّ لن تملك حق معرفةِ لمن أصوِّت".

 

فوجئت، بل ذُهلت في الواقع، لم أكن أتوقَّعُ تلك الإجابة، فزادت من طينةِ الوضعِ بلّة وقالت: "يا مهند، هناك من ماتَ مضحيّاً بروحه من أجلِ أن نمتلكَ تلك السّتارة في غرفة التّصويت، وأنت تريدني أن أشاركَكَ صوتي! لا أستطيع، يمكنني بالمقابل أن أناقِشكَ بأمور السياسة، ويمكنني أن أناقش أفكارَ كلِّ الأحزاب على تفرُّعاتها، يمكنني أن أقولَ لك ما أحبُّ وما أكره عند كلٍّ منهم، لكنَّني لن أشاركَكَ من اخترت".  أقسمتُ لها حينها أنَّني عندما سأصوِّتُ في بلدي لن أشاركها صوتي، كنوعٍ من التَّمرُّدِ وردِّ الصَّاعِ صاعين. فكيف وأنا حبيبها وأمين سرِّها وزوجها المستقبليُّ ولا تريدُ مشاركتي هكذا أمر؟

   undefined

  
بعد ثلاثةِ أسابيعَ بالضّبط، ثلاثة أسابيع فقط كنت أعملُ في المخبر خلالَ عُطلةِ نهايةِ الأسبوع. وإذ بأحدِ طلاب الدّكتوراه من الجنسيّةِ السّوريّةِ يدخل متسائلاً ماذا أفعل في المخبر، وأنه ذهب إلى أحد مكاتب الطّيرانِ (الطّيران الجزائريِّ) الّذي حوِّلَ إلى مكتبٍ رمزيٍّ للانتخابات السُّوريّةِ للسُّوريين المقيمين في مدينة ليون، وطالبني بالذّهاب والتّصويتِ هناكَ خوفاً من عقويةٍ مُحتمَلةٍ إن لم أصوِّت. لن أُخفيكم، خفت وقرَّرت الذَّهاب ولكنه أشارَ عليّ بالاتّصالِ الهاتفيِّ أوّلاً لأتأكدَ إذا كان المكتب مازالَ مفتوحاً، فعلاً هاتفناهم، وطلبتُ التّحدُّثَ مع القنصل السّوريِّ، وبرحابة صدرٍ أُجيب على طلبي بالقَبول.
 
وبصوتٍ مرتبك طلبتُ معرفةَ إمكانيّةِ قدومي للتّصويت، فقالَ لي القنصلُ: "ما عليك يا سيدي، هل لديك رقم جواز سفرك؟"  أجبته أن طبعاً معي. فقال أعطني الرّقم. فأعطيته إيّاه. فقال لي: " شكراً جزيلاً أتمنى لك نهاراً سعيداً". لم أصدِّق ما سمعت، فهو لم يسألني إن كنت أريد التصويت بنعم أم لا، نعم لقد وصلت التّكنولوجيا في بلادي لأقصى درجات التّطورِ، فأصبحَ في بلدي أجهزةٌ قادرةٌ على قراءة الأفكار. أصبحنا متطوِّرينَ كفايةً، ويمكن التَّعرفُ عليك دون مجيئكَ وذلك عبر دراسةِ ذبذباتِ الصّوتِ وتطابقها للتّأكُّد من أنَّ من صوَّتَ هو أنا فعلاً.

  

لم تنتهِ القصَّةُ هنا، اتّصلتُ مساءً بوالدي لأخبرَهُ بما حدث، وأنَّني بقيت مُعزّزاً مُكرّماً، فقد انتخبت على الهاتف، بدون حتّى أن أتفوَّه بقراري. فانتفض والدي قائلاً: "لماذا لم تخبرني يا ولد؟ لقد أخذت هويّتك في الصّباح وصوَّت لك ولأمِّك ولأخيك". نعم والدي لم يكن يملكُ وكالةً باسمي ليُصوِّت، ولكنَّ التّكنولوجيا المُوّزَّعة في كلِّ مراكزِ الانتخاباتِ السّوريّةِ، كانت قادرةً على اكتشافِ أنَّني صوَّتُ مرَّتين ولم أعطِ رأيي ولا لمرَّةٍ واحدةٍ.

  

بعد عشرِ سنين، أصبحت حبيبتي زوجتي، وما زلتُ لا أعرف لمن تُصوِّت، ومازالت هي تعرفُ لمن أصوِّت، ومازلتم أنتم تعرفون لمن أصوِّت، وما زالوا هم يعرفون لمن أصوِّت. لنرتقي، أما هناك ما هو أهمُّ من مجرد إدلاءِ صوت؟؟ رحمك الله يا نزار عندما قلت

"ليس هذا وطني الكبير..

يا وطني:

يا أيُّها الضّائعُ في الزّمانِ والمكان،

والباحثُ في منازلِ العربان..

عن سقفٍ، وعن سرير

لقد كبرنا.. واكتشفنا لعبةَ التّزوير

فالوطن الّمن أجله مات صلاح الدّين

يأكله الجائع في سهولة

كعلبة السّردين..

والوطن المن أجله قد غنّت الخيول في حطِّين

يبلعه الإنسانُ في سهولةٍ..

كقرص أسبرين!!.."

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.