شعار قسم مدونات

حلم رئاسة الجمهورية.. الحرب سرقت برنامجي الانتخابي

BLOGS رجل، تأمل، تفكير

اعتدْنا منذُ صغرنا على سماعِ أقاصيصَ كانت تروى لنا عن مغامراتٍ عاشها أبطالُ الرّاويةِ في ظروفٍ مختلفةٍ، كان بعضها عن رحّالةٍ جابوا الأرضَ طولاً وعرضاً بحثاً عن لقمةِ العيشِ وسعياً لمغامراتٍ وخبراتٍ جديدةٍ، وباتَ جزءٌ مني -كطفلٍ صغيرٍ- يرى بأنّ السّفرَ مغامرةٌ يتحتّمُ عليه خوضُها، وأذكرُ مثلاً أنّني كنتُ أخشى أن أنامَ طويلاً في أيّةِ رحلةٍ قصيرةٍ كنّا نسافرُها رغم أنني بالكادِ كنتُ أستطيعُ البقاءَ مُتيقّظاً حينها، وذلك خوفاً من أن يفوتَني شارعٌ أو منظرٌ مثيرٌ للاهتمام كان من الممكن أن أراه، وشاءتْ الأقدارُ أن أسافرَ للخارجِ لإتمامِ دراستي في التّاسعةِ عشرة من عمري، وبالفعل غيّرَ السّفرُ شخصيّتي بالكامل واكتسبتْ أموراً عدّة منها الإيجابيّ ومنها السلبيّ، ومع مرورِ الأيّام بدأتُ أتساءل عن أهمّية السّفرِ ومخالطةِ الشّعوب الأخرى على شخصي وفكري وحتى مستقبلي.

 

أذكرُ أنني عندما كنتُ أسيرُ بشوارعِ مدينةِ ديجون الفرنسية في العام ٢٠٠١، كنتُ أقولُ لنفسي إنّني إن أصبحتُ رئيساً للجمهورية السورية (عشم إبليس في الجنة) سيكونُ من أهمّ أولوياتي أنْ أستبدلَ الخدمةَ العسكريّةَ الإجباريّة بإرسالِ بعثاتٍ تشملُ كلّ الشّرائحِ السّورية لإمضاءِ ثلاثةِ أشهرٍ على الأقلّ في دولٍ متحضّرةٍ ومتقدمةٍ كي نصبحَ أكثرَ اطّلاعاً ومعرفةً بالحضاراتِ المتقدّمة، يمكنكم أن تلاحظوا مدى الأحلامِ الطفوليّةِ التي رافقتني وما زالت إلى هذا اليوم؛ لكنّي ما زلت مُصِرّاً أنّ مشروعاً كهذا سيكلّف الدولةَ أقلّ بكثيرٍ من الخدمةِ العسكريّة وسيكونُ له الأثرُ الأكبرُ في حمايةِ البلد والمجتمع.

 

مهما تعددّتِ الأسبابُ التي دفعتنا لتركِ أوطاننا طواعيةً أو قسريّاً إلا أننا في عالم جديدٍ وبيئةٍ جديدةٍ ستفتحُ لنا آفاقاً لم نعرفْها من قبلُ وسترينا للحياةِ جوانبَ غريبةً عنا
مهما تعددّتِ الأسبابُ التي دفعتنا لتركِ أوطاننا طواعيةً أو قسريّاً إلا أننا في عالم جديدٍ وبيئةٍ جديدةٍ ستفتحُ لنا آفاقاً لم نعرفْها من قبلُ وسترينا للحياةِ جوانبَ غريبةً عنا
 

للأسفِ لم أصبحْ رئيساً للجمهورية وتشذّبتْ أحلامي ولكنْ ساهمتْ الحرْبُ -للأسف- بالقيام بما كنت أسميه أهمَّ أولوياتِ برنامجي الرّئاسي، ففي يومنا هذا باتتْ نسبةُ السّوريون الذين اضطروا للسفرِ خارجاً أكبرَ وأوسعَ وشملتْ فعلاً كلّ شرائحِ المجتمعِ منهم من اضطر للسّفرِ بسببِ الظّروف السّياسيّة ومنهم بسب الخطرِ المحدق بأمانهم والبعض الآخر بهدفِ التحصيلِ العلميّ والأسباب كثيرة طبعاً.

 

ومهما تعددّتِ الأسبابُ التي دفعتنا لتركِ أوطاننا طواعيةً أو قسريّاً إلا أننا في عالم جديدٍ وبيئةٍ جديدةٍ ستفتحُ لنا آفاقاً لم نعرفْها من قبلُ وسترينا للحياةِ جوانبَ غريبةً عنا، بالتّأكيد سنحبّ البعضَ منها وسننبذ البعض الآخر، ولكنّ الجيّدَ في الأمرِ أنّنا سنرى عوالمَ لم نألفْها سابقاً وهو أهم ما في الأمر.

 

قد يفسّر البعضُ جملة "لنكن أكثر انفتاحاً" على أنها انسلاخٌ عن كلّ ما هو قديمٌ وقبولٌ إجباريٌّ لكلّ ما نراه إلا أنّني أفسّرها على نحوٍ مختلفٍ وهي لنكن أكثرَ قبولاً واندماجاً في المجتمعِ الجديدِ الذي نقْطُنه ومن ثمّ لنقرر إن كانَ يلائمنا أم لا، دون إطلاقِ أحكامٍ مسبقةٍ.

 

سمعنا وشاهدنا أمثلةً عدّةً لشبابٍ حققوا إنجازاتٍ ترفعُ لها القبعةُ واستطاعوا بفترةٍ قياسيّة أن يثبتوا وجودَهم وأن يبرهنوا أنّ الشخصَ النّاجحَ قادرٌ على الإبداعِ مهما كانت الظروفُ وفي أيّةِ بيئةٍ وجد بها، فهو البذرةُ والتربةُ الخصبةُ بآنٍ واحدٍ، وطبعاً لا يجوز لنا إنكارُ الفرصِ التي أتاحتها البلدانُ المضيفةُ والتي شكّلتْ حافزاً للعديدِ منهم، ولن أبدأَ بسردِ الأسماء فالقائمةُ ليست بقصيرةٍ وأثقُ جدّاً بأنّ كلَّ شخصٍ فينا لديه مثالٌ واحدٌ على الأقلّ. 

 

لماذا الخوفُ من كلمة "لا أعرف"، فهذه الكلمةُ هي نصفُ المعرفةِ ولأنها نتاجٌ طبيعيٌّ لبيئةٍ جديدةٍ وطريقةُ تفكيرٍ وعلومٌ لم نألفها من قبل، لا ضير في ذلك

من اللافتِ للذكرِ أنني قرأتُ مؤخّراً أنّ نسبةَ نموّ الشركاتِ المسجلةِ حديثاً في ألمانيا في عام 2015 على يدِ مهاجرين يحملون جوازاتٍ أجنبيّةً 44 % مقارنةً بنسبة 13 % فقط في 2003، أليس هذا دليلٌ على نجاحٍ رغْم كلّ الظروفِ السّلبية؟ نعم هناك على الضّفة المعاكسةِ للأمرِ العديد ممن توقف، فلا هم قادرون على السّير قدماً ولا على العودةِ إلى الوراء بعضُهم يخشى من المجهولِ ربّما والبعضُ الآخرُ ما زالَ مأخوذاً بمشاعرَ سلبيّةٍ رافضاً للتقبل والتكيف والأسبابُ عديدةٌ. ولكنني بطبيعتي متفائلٌ، وأعرفُ تماماً قدرةَ المهاجريين من بلدي الأمّ على التأقلمِ والنّجاح، أؤمن بهم وأؤمن بقدراتهم، ولا أريد سماعَ تلك القصصِ التي تتحدث عن سرقاتٍ وجرائمَ وأمورٍ أخرى ارتكبها البعض، دعونا نركز على الإيجابيّ ليتحوّلَ إلى مثلٍ يحتذى به. 

 

كثيرةٌ هي الصعوباتُ إلا أنّها ليست بعوائقَ جوهريّةً ومعظمها قابلٌ للتذليل، أطلّاباً كنا أو عاملين أو مدرّسين أو أمهاتٍ، سنتفاجئ يومياً بحجمِ الأشياء التي نجهلها فلماذا الخوفُ من كلمة "لا أعرف"، فهذه الكلمةُ هي نصفُ المعرفةِ ولأنها نتاجٌ طبيعيٌّ لبيئةٍ جديدةٍ وطريقةُ تفكيرٍ وعلومٌ لم نألفها من قبل، لا ضير في ذلك ولا ضير أيضاً في تقبّلِ النّقد والإرشاد ممن استقبلنا، ولندعْ المشاعرَ السّلبيّة جانباً فلا الإحباطُ ولا اليأسُ سيوصلنا لمكانٍ ما وإنما العزيمة والإرادة.

 

أؤمن بأن الثقةَ بأنفسنا والعملَ الجاد هما عواملُ النجاح الأساس فلنتحلَّ بثقةٍ أكبرَ لأننا جميعاً متميزون بنقطةٍ معينةٍ، ما علينا سوى اكتشافها، وبقدرِ افتقارنا للخبرةِ أو المعرفة بأمرٍ ما سنجدُ قدرةً وطاقةً وقابليّةً للتعلّم والتأقلم لم ندرك أننا نمتلكها، فلنعِ أننا مهما بذلنا من تعبٍ ومهما احتجنا من وقتٍ بدا طويلا وأكبرَ من طاقتنا إلا أننا سنصلُ في نهايةِ المطافِ إلى ما نريد وهذه الثابتةُ الوحيدةُ التي يجبُ ألا نرضى أن تتغيّر وكلُّ ما عداها مرحليٌّ مؤقتٌ.

 

لن أقولَ إنّ الطريقَ بالغربة معبدٌ وسهلٌ فهو ليس كذلك، قد يستنزفُ الكثيرَ من الموارد الماديّة والمعنويّة لكنه أيضاً قد يحملُ بطيّاته العديدَ من الفرصِ التي لم تكنْ متاحةً بالسّابق
لن أقولَ إنّ الطريقَ بالغربة معبدٌ وسهلٌ فهو ليس كذلك، قد يستنزفُ الكثيرَ من الموارد الماديّة والمعنويّة لكنه أيضاً قد يحملُ بطيّاته العديدَ من الفرصِ التي لم تكنْ متاحةً بالسّابق
 

أذكر عندما وصلتُ في سنتي الأولى إلى فرنسا أنّني كنتُ مأخوذاً بكلّ ما رأيته من مظاهرَ حضاريّة، جزءٌ منها كان جديداً بعضَ الشيء وذلك الأمر جعلني أعيدُ التفكيرَ مراراً بالخططِ التي كنتُ قد وضعتها مسبقاً إلى أن نصحني صديقٌ للعائلة ببضعِ كلمات رافقتني لسنواتٍ عديدةٍ  حيث قال لي: "فقط حدد تماماً ما تريدُ واعرفْ ما الذي قد يضيفه وجودك في أيّ بلد آخرَ سواء كان إضافةً علميّةً أو مهنيةً أو اجتماعيّةً، أعطاك القدرُ فرصةً للاختيارِ من جديدٍ دون قيود وهو أمرٌ جيّد لكن لا تدعْ كثرةَ المجالاتِ المفتوحةِ تشتّتك عن الهدفِ وتجرفك دونَ الوصول إلى أيّةٍ غايةٍ حدد ما تريدُ بدقةٍ ولا تحدْ عن الطريق". بكلمات أخرى وكما نقول في سوريا بلهجتنا العامية "أكثر من بطيختين ما فيك تحمل بإيد وحدة" وهذا ما حاولت أن أتذكره في كلّ فجرِ يومٍ جديدٍ.

 

لن أقولَ إنّ الأمرَ هيّن وإنّ الطريقَ في الغربة معبدٌ وسهلٌ فهو ليس كذلك، قد يستنزفُ الكثيرَ من الموارد الماديّة والمعنويّة لكنه أيضاً قد يحملُ في طيّاته العديدَ من الفرصِ التي لم تكنْ متاحةً في السّابق لا بأسَ إن احتاج الأمر بعضاً من الوقت وبعضاً من التعب ففي أيّ أمر وأيّ بناءٍ مرحلةُ التأسيسِ والتخطيطِ هي الفترةُ التي تستغرقُ زمناً أطول لكنها ستؤتي ثمارها في النهاية. 

 

ما زلت -بحكم مهنتي والتزاماتي- اضطر للسفر مراتٍ عدّةٍ وما زلتُ حتّى هذه اللحظةِ كذاك الطفلَ الصغيرَ الذي يخفقُ قلبه هلعاً وفضولاً وفرحا في كلّ مرة تطَأ قدماه فيها أرضَ بلدان جديدة، وما زلتُ أعتبرُ النوم عدوَّ أسفاري وأخافه كي لا أخسر وقتا قد يمنحني فرصةً لاكتشافِ شيء جديد، وما زلت في كلّ يوم وفي كلّ لحظةٍ في أيّةٍ بقعة من بقاع الأرض أتذكر المقولة الشهيرة لغسان كنفاني "لك شيء في هذا العالم فقم".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.