شعار قسم مدونات

الدولة الوظيفية وإدامة العنف

Emirati armed forces show their skills during a military show at the opening of the International Defence Exhibition and Conference (IDEX) in the Emirati capital Abu Dhabi on February 19, 2017. / AFP / KARIM SAHIB (Photo credit should read KARIM SAHIB/AFP/Getty Images)
الأحداث التي عاشها ويعيشها العالم العربي منذ الاستعمار، إلى الربيع العربي، ثم ما بعد الربيع العربي، تدفع المرء دفعا إلى محاولة تفسير ما يقع، وفهم ما قد وقع، وإرجاع الأحداث والظواهر إلى أصولها، ومحاولة الكشف عن علاقة التأثير والتأثر بين مختلف الظواهر. فسرد الأحداث وتوثيقها لم يعد يجدي نفعا؛ بل إن وصف الظواهر بحجة الموضوعية أصبح موضة بالية لم يعد يلتفت لها الرأي العام.

فالعامة الآن أصبحوا منفتحين على العالم أكثر من المثقفين أنفسهم، ولم تعد المعلومة حكرا على القابعين في مكتباتهم؛ وإنما أصبحت تتدفق بين الناس كالسيول الجرارة، آلاف المعلومات يوميا. وأصبح الناس _عوام الناس_يحاولون تحليل ما يقع، وفي بعض الأحيان يستطيع عوام الناس الإتيان بتحليلات عميقة لدرجة أنها تجعل بعض المثقفين يبدون في غاية السطحية في تعاطيهم مع الأحداث إذا ما قورنت التفسيرات. فرهان المثقف الآن ليس هو سرد المعلومات؛ وإنما معالجة المعلومات وتفسير الظواهر، من أجل التنبؤ بصيرورة الأحداث_ولو تلك الخطوط العريضة لصيرورة الواقع _أما التفاصيل فأمرها إلى خالق الكون.

ومن بين المقولات أو النماذج التفسيرية للواقع (على تعبير عبد الوهاب المسيري)؛ هناك نموذجان تفسيريان مختلفان باختلاف صاحبيهما، وباختلاف المنطلق والرؤيا، النموذج الأول وهو نموذج: "العنف وإدامة العنف" للدكتور منير شفيق، والنموذج الثاني هو نموذج: "الدولة الوظيفية"؛ كنموذج تفسيري لواقع الدولة الصهيونية؛ للدكتور عبد الوهاب المسيري. وسنحاول في هذا المقال ضم النموذجين معا من أجل الحصول على نموذج تفسيري يتكون من ركنين (جزء وكل) كمساهمة في تفسير زاوية من واقع الأنظمة العربية.

الربيع العربي كشف عن وجه منطق إدامة العنف كاملا! حيث تطورت هذه السياسة أفقيا وعموديا، فلم تعد هذه السياسة مجرد فزاعة، أو سجن، وإنما تطورت إلى حرب شاملة!

ولنبدأ من الجزء؛ "العنف وإدامة العنف". يتحدث الدكتور منير شفيق عن سياسة الغرب ضد العالم الإسلامي، حيث ذهب إلى أنه من بين الأمور الثابتة في تعاطي هذه القوى مع العالم الإسلامي؛ هي "العنف وإدامة العنف"، أما العنف فقد سجلته كتب التاريخ إبان الاستخراب (الاستعمار) الذي شنته الإمبريالية على شعوبنا وأوطاننا، وأما إدامة العنف؛ فقد كان بعد الاستقلال أي أن الأنظمة التي ستحل محل عصابات الدول المتسخربة ستتولى الإدامة؛ أي أن تجعل من العنف جزءا من سياساتها في إدارة البلاد.

إن تفسير الدكتور منير شفيق؛ كان تفسيرا مقنعا، فقد كانت الأنظمة العربية حريصة على إدامة العنف كوسيلة لإدامة الاستقرار وتطويع الرعية؛ سواء عبر خلق فزاعة السجون الجهنمية (قائمة السجون طويلة) أو عبر الحملات التأديبية التي كانت تشنها بعض الأنظمة بين الفينة والأخرى؛ أي عندما يتطلب الأمر إخماد ثورة أو انتفاضة (المغرب/سنوات الرصاص، الجزائر/ أحداث أكتوبر 1988 وغيرها، ليبيا القدافي، تونس بورقيبة، وصولا إلى مصر عبد الناصر، وسوريا حماة…) واضرب طولا وعرضا في بلاد العالم العربي، فقد كان منطق إدامة العنف هو المنطق المهيمن على سياسات الأنظمة العربية.

لكن الربيع العربي كشف عن وجه منطق إدامة العنف كاملا! حيث تطورت هذه السياسة أفقيا وعموديا، فلم تعد هذه السياسة مجرد فزاعة، أو سجن هنا أو هناك، وإنما تطورت إلى حرب شاملة! أي:" حرب الكل ضد الكل" بتعبير طوماس هوبز! حرب النظام/ الكرسي ضد كل الشعب وإرادته بمختلف تلاوينه. فنحن إذن أمام التجلي النهائي لمنطق العنف وإدامة العنف، يصل الأمر منتهاه إلى إبادة شعب بأكمله. ولن نكون مبالغين إذا قلنا؛ بأن بعض الأنظمة قد تبيد الطفل الأخير من شعبها وهي تستشعر قيامها بالواجب المنوط بها. وهذا هو منطق إدامة العنف على حقيقته وهذه هي تجلياته!
هذا النموذج التفسيري الجزء (العنف وإدامة العنف) لا يمكن فهمه؛ إلا في ظل النموذج التفسيري الكل:
الكل: الدولة الوظيفية.

النظام الذي يمارس العنف ضد شعبه هو نظام لا يستشعر الحس الوطني، ولا القومي، ولا الديني، ولا متطلبات المرحلة، ولا يسعى إلى تقدم بلده، ولا إلى تحقيق الرفاه
النظام الذي يمارس العنف ضد شعبه هو نظام لا يستشعر الحس الوطني، ولا القومي، ولا الديني، ولا متطلبات المرحلة، ولا يسعى إلى تقدم بلده، ولا إلى تحقيق الرفاه
 

والنموذج التفسيري الكل هو نموذج الدولة الوظيفية؛ من سك الدكتور عبد الوهاب المسيري وإبداعه؛ حيث قام بدراسة "الجماعات الوظفية: وهي التي يستجلبها المجتمع من خارجه أو يجندها من داخله، ويوكل إليها وظائف لا يمكن لغالبية أعضاء المجتمع الاضطلاع بها لأسباب مختلفة " ترفعية؛ أي ترفعا عن دناءتها، أو احتياجية ؛ أي لحاجة المجتمع إلى تلك الوظائف. وقد طبق الدكتور المسيري هذا النموذج على الدولة الصهيونية؛ فنظر إليها ليس كدولة مستقلة، أو دولة دينية؛ وإنما كدولة وظيفية، وظفها الغرب وزرعها في قلب العالم العربي والإسلامي من أجل القيام بوظائف ما بعد الاستقلال، أي؛ حماية مصالح الدول الغربية والنظام الدولي ..(هذا ملخص النموذج التفسيري …).

سنستعير هذا النموذج لنطبقه لا على دولة الكيان الصهيوني، وإنما على الأنظمة العربية، فوحده النموذج الكلي (الدولة الوظيفية) الذي يفسر إدامة العنف كنموذج جزئي، ويفسر كم العنف الذي مارسته الأنظمة العربية على شعوبها منذ الاستقلال الذي كان من المفروض أن يشكل انطلاق مرحلة الرفاه العربي بعد التحرر من نير الاستعمار (الاستخراب)! فلنصغ المحاولة التفسيرية عبر سؤال وجواب، كالآتي:
لم تمارس الأنظمة العنف على شعوبها؟ فيكون الجواب: لأنها تنهج سياسة إدامة العنف.
ولم تنهج سياسة إدامة العنف؟ لأنها أنظمة وظيفية تمارس بالوكالة الوظيفة الموكولة إليها من طرف الدول الاستعمارية الكبرى، التي يعد العنف جزءا رئسيا في معاملتها مع الآخر (الاستعمار/الاستخراب، الحرب العالمية الاسترقاق، الهنود الحمر …خير شاهد) وذلك عبر عقد يتعهد فيه الطرف الأول بإدامة العنف، ويتعهد الطرف الثاني بإدامة الكرسي!

المسؤولين عن الوظيفية يسعون لإماتة الوعي واستبداله بالجهل، عن طريق خلق مقولات، وتفسيرات، وأنماط سلوكية دخيلة، من قبيل الحداثة والتحرر والحرية الفردية ومتطلبات المرحلة

هذا الذي قلناه.. يفسر إلى حد ما؛ بعض الأحداث التي اتسمت بالعنف في العالم العربي انقلاب السيسي وما تبعه، نظام الأسد والمآسي التي تسبب فيها، فالنظام الذي يمارس العنف ضد شعبه هو نظام لا يستشعر الحس الوطني، ولا القومي، ولا الديني، ولا متطلبات المرحلة، ولا يسعى إلى تقدم بلده، ولا إلى تحقيق الرفاه، ولا إلى توعية شعبه حتى يفاخر الأمم بإنتاجيته، وإنما هو فقط يستشعر الوظيفية التامة! أي أنه يؤدي وظيفة إدامة العنف وحسب! وذلك هو الحس المهني الذي يطلب منه!

ويفسر أيضا توجهات بعض دول الخليج مؤخرا، كالسعودية مثلا: وما يروج من توطيد العلاقات مع إسرائيل، ومن الانفتاح على قيم الحرية والمساواة، وهذا هو التجلي الأخير ،وهو ما يسعى له النظام الدولي؛ علاقات وطيدة مع إسرائيل الدولة الوظفية الأم! التي زرعت بالمنطقة لما كانت الأنظمة العربية لا تقبل ولا ترضى بالوظفية التامة. ومعنى علاقات عادية مع إسرائيل (الدولة الوظيفية الأولى) هو التعاون، والتحالف أي؛ اقتسام الأعباء، وتبادل الخبرات…ففي نهاية الأمر ستتحول كل الدول إلى دول وظيفة تؤدي وظيفتها بحراسة مصالح النظام الدولي بالمنطقة! وهذا هو التطور الذي ستصل إليه بعض الأنظمة العربية !؟ فكل سنوات الممانعة! وعدم التطبيع! وسنوات المقاطعة! والتحالفات العربية! ستذهب هباء! وستحل محلها الوظيفية التامة!

إن أكبر ضحية من هذا التجلي الأخير هي الشعوب العربية والإسلامية. فما معنى أن يكون هناك شعب لدولة وظيفية؟ معناه.. أن طاقات الشعب، وجهوده، وإبداعاته، لن تكون في سبيل نهضته، ولا في سبيل تقدمه وازدهاره، وإنما هي طاقات موجهة في قنوات تم بناؤها مسبقا، وهي عقول مسلوبة، تعمل جاهدة من أجل تأثيث المشهد، ففي حين تقوم هذه الأنظمة بالحراسة والتوجيه، وتجميع الثروات، تقوم الشعوب بالإنتاج من أجل التصدير (تصدير الثروات)، وتكدح من أجل الاستهلاك (استهلاك منتجات الدول الموظفة بكسر الظاء)، وهذا هو الطموح الكبير لأمريكا والنظام الدولي؛ أن تصل إلى مرحلة راحة البال! أن لا تتعب من أجل الاستنزاف، وأن لا تضطر للغزو والتضحية بالجنود والرعايا؛ كما حدث في العراق وأفغانستان.. فقد كفاها موظفوها شر الحرب بعملهم الجاد في سبيل أن تنام قريرة العين!

ويظل المؤرق الرئيسي في كل العملية هي الشعوب الواعية! ولذا فإن المسؤولين عن الوظيفية يسعون إلى إماتة الوعي واستبداله بالجهل، عن طريق خلق مقولات، وتفسيرات، وأنماط سلوكية دخيلة، من قبيل الحداثة والتحرر والحرية الفردية ومتطلبات المرحلة، وكل تلك المقولات التي تستورد معلبة ولا تقبل التفكيك. أي إنهم يمارسون الاستحمار بتعبير علي شريعتي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.