شعار قسم مدونات

مساومة مثقف

مدونات - حذاء تنظيف مثقف عمل

عيونٌ زرقاء يعلوها شعرٌ أصفر لفتيان غجريّين دون الرابعة عشر من عمرهم، تُحدِّق بالأقدام بحثا عن أحذية مُغبرَّة لتلعقها أيديهم بثمن بخس، بينما رسمَ سوادُ صِبْغ الأحذية لوحةَ بُؤْسٍ على وجوههم. قُبيل الغروب، بعد خروجه من مقهى يرتاده المثقّفون أشباهه، حطّت قدماه على مقربة من ساحة المرجة وسط دمشق، هرعتْ إليه عيونهم وأفئدتهم، عندما رأوا صحيفة في يده وغبارا يدنّس حذائه، استجدتْه أعينهم لجعل حذائه برّاقًا، لتكتمل أناقة ثقافته، مقابل ليرات معدودات.

 
عَلِقَ حذاءه بشباك أحدهم، تأبّطَ المثقّفُ صحيفتَه، وبدأ المساومة على الثمن، بعد أن رفع حافره الأيمن على صندوق تنظيف الأحذية. "بكم؟" "خمسون ليرة فقط." قال فقط؛ ليُوحي له أنّ هذا أقلّ ما يمكن دفعه والقبول به، مع فَتْح باب الإحسان، هذا الفتى ما زالت نيّته بيضاء لم تَسْودّ بعدُ، فهو لا يتقن حيلة مضاعفة السعر الحقيقيّ للحصول على المُراد كما يفعل غيره.

 

"لا، هذا كثير، سأعطيك خمسا وعشرين فقط." قال ذلك على مبدأ التعامل مع النيّة السوداء المُبطّنة، فالكلّ يضاعف السعر الحقيقيّ؛ ليُخفضَ عند المساومة. "ولكن"… عندما قال: ولكن، أنزل المثقّف قدمه -التي قد أخذ الفتى يعانقها بيديه بدفء قبل أن ترحل- يتصنّع إنهاء الصفقة التي لم تكتمل بعد.

"حسنا لا بأس". خضع الفتى، وتابع عمله، وهو يمرّر يديه حول حذائه بلطف كأنّه يمسح جسد قطِّهِ الأليف، وقد أمال عنقه مع حركة يده ويُتبعها بصره. نقدَ المثقفُ الفتى الثمنَ، وتابع خطاه بحذاء لامع، طرقَ ذهنَه شيءٌ ما، يا إلهي هل ساومته على ثمن تنظيف حذائي! أيّ دناءة بلغتْها نفسي، سحقا، ما الفرق بين هذه النفس وذا الحذاء؟! إلّا أنّه أصبح نظيفا ونفسي لا، كان بوسعي مَسْح حذائي بصحيفتي أفضل من مساومة إنسان يفترش الرصيف؛ لتقبّل يداه حذائي لتنظيفه. لامَ نفسه قليلا، ثمّ أناخ رأسه وتابع طريقه، ورمى صحيفته -التي يحملها منذ الصباح ولم يقرأها- في حاوية قمامة على يساره، بانتظار صدور العدد القادم، وجلسة ثقافيّة مع الرفاق غدا.

 

ما تلك المبادئ التي يصطنعونها -في نظرهم- إلا كالحذاء الذي يُلمِّعونه؛ لينتعلوه في سبيل غاياتهم وأهدافهم، وما نحن لديهم إلا كالفتى صابغ الأحذية يساوم بنا عندما تحين له الفرصة
ما تلك المبادئ التي يصطنعونها -في نظرهم- إلا كالحذاء الذي يُلمِّعونه؛ لينتعلوه في سبيل غاياتهم وأهدافهم، وما نحن لديهم إلا كالفتى صابغ الأحذية يساوم بنا عندما تحين له الفرصة
 

هي مدوّنة عبر قصّة قصيرة من نسج خيالي، نحاول عبرها أنّ نصوّر شيئا من الواقع الذي لن تقدر أيّ قصّة على وصفه أكثر ممّا هو يصف نفسه، ولكنّها تحاول أن ترسم صورة لرداءة نفوس كثيرة من الأمثلة المُتخيَّلة على أنّها حسنة ممّن هم حولنا، ممّن يتصنّعون القيم، ويتمثّلون أشياء نبيلة لا ينتمون إليها، فنحاول أنّ نُعبِّر عن ذلك الخداع ببعض الفنون؛ لننفضَ عن فكرنا زيفَ صُوَرٍ كثيرة تكوّنت فينا، لشخصيّات تعفّنتْ في داخلها وتدّعي القداسة والطهارة في شكلها الخارجيّ، فهذا العالم أصبح أكثره زائفا، ويحتاج لتفكير عميق لإدراك ما به من كذب ونفاق؛ لنكتشف الزائف من الأصيل قبل أن يُكشف لنا، فكُثُرٌ هم مَن يتّخذون فلانا مثلا ويخالونه بطلا؛ ليتفاجؤوا بعد حين بمكره وتمثيله، وكأنّه مسرحيّ بارع يؤدّي دوره بإتقان مُحكم، ويتفاعل معه المشاهدون لدرجة العويل والبكاء، بينما يعود خلف الستار ليستبدل جلده بآخر، فتنقشع عن ذاته القيم المصطنعة التي أدّاها على المسرح.

فعند إيماننا بأحد ما يجب أن نتريّث حتّى نشاهده في نهاية مطافه أين تحطّ قدماه، ولنرى إن كان سيموت دفاعا عن المبادئ والقيم التي آمنّا بأنّه أهلٌ لها، أم أنّه بائع يشتري بنا غاياته، ويتّخذنا ولباس القيم الذي ارتداه سبيلا لبلوغ مرامه.

وما تلك المبادئ التي يصطنعونها -في نظرهم- إلا كالحذاء الذي يُلمِّعونه؛ لينتعلوه في سبيل غاياتهم وأهدافهم، وما نحن لديهم إلا كالفتى صابغ الأحذية يساوم بنا عندما تحين له الفرصة؛ لينال بنا ومنّا الثمن الذي يريد، فيجب أن نتوقّف عن تلميع صورهم ومسح غبار دناءتهم وإزالة ما علق بهم من نجاسة؛ لتتدلى منهم أدرانهم وتبصرها العيون.

ولكثرة ما سقط من هؤلاء أصبحنا اليوم نتخوّف مِنْ كلّ مَنْ يصرخ مناديا بتلك المبادئ والقيم؛ لأنّنا لا نسمع من صاحب الصراخ همسَه الذي يكشف حقيقته؛ حيث ضاع خَلْفَ صدى صراخه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.