شعار قسم مدونات

حينها أصبحتُ صحفيّة استقصائيّة

مدونات - كاميرا صحفية صحفي مصور

لن يتوّقف إصرار كلّ منا على الوصول لطموحه ما دمنا نتنفّس، ولن تؤثر أيّة عقبة على إنجاز ما كنّا نرسم بخيالنا من معجزات، هنا لن أتحدّث عن التنمية البشرية وإنّما شغفُ العمل القويّ دون الاهتمام لأيّ إحباط من الآخرين، أو يأس من عدم وجود الفرصة. لطالما كان حُلمي مُذ دخلت كلية الإعلام أن أصبح محقّقة صحفيّة في المجال الجنائيّ، فشغفتُ الخوض بالصحافة الاستقصائية حتى تخرّجت من الجامعة بسبعِ تحقيقاتٍ وثلاثة جوائز بمجالها، كنت أتتبع لحظة بلحظة دورات وورش عمل تتعلّق بها، وأترقّب متى يحين الموعد لأستفيد أكثر من المحقّقين الاستقصائيين في الدول كافّة.

 

الشغفُ بموضوع ما يجعلنا نتحمّل عقباته الكبيرة، فسلسلةٌ كبيرة من المشقات ستدركها وأنت تبدأ أوّل تحقيقٍ لك من الفكرة، مروراً بتطويرها، حتى الوصول لفرضيةٍ وتنفيذها، أما خلال التنفيذ فمشقّات كبيرة ستمرّ بها من مقابلة مسؤول أو الوصول لوثائق تدعّم من صدق معلوماتك حتى حفظ التسجيلات الصوتية جميعها.

 

بدأتُ في الصحافة الاستقصائية من حكايةٍ لوادٍ موجود في مدينتنا، قد فاضت مياهه في يوم شتوّي غزير بالأمطار، أغرق أنحاء عدة من المدينة، ما سبّب وفاة فتاتين لم تستطيعا النجاة، وعُثر عليهنّ بعد أن خفّت شدة هطول المطر في صباح اليوم التالي، لتكون هذه الحكاية أولى التحقيقات الاستقصائية التي كتبتها. كنت حينها في سنتي الجامعيّة الأولى، لم أدخل بعمق للصحافة وأساسياتها بعدُ، وحين أنهيت المساق الجامعيّ مع أنّني كنت أصغر الطلبة عمراً وخبرة فقد حصلتُ على أعلى علامة، وفزت بجائزة على مستوى فلسطين.

  

تابعتُ ما ينشر من تحقيقات استقصائية في فلسطين، وكان السؤال الذي يتكرّر بذهني دوماً: "ما ينشر في مجمله بيئيّ، إذن أين التنوع في موضوعات الصحافة الاستقصائية؟". في سنتي الجامعية الثانية، اشتركتُ بمبادرة "إعلاميون شباب ضد الفساد" لأشهر طويلة، كانت تُعنى بتسليط الضوء على قضية الفساد ثمّ استخدام فنّ الصحافة الاستقصائية للكتابة عنها، كانت تجربة بخبرة كبيرة مع مشقة للوصول إلى المعلومات، وإنهاء التحقيق الاستقصائيّ بعد تعديلات جمّة وتغييرات كثيرة.

 

إن عدم تقبل وجود فكرة التحقيق الصحفي في فلسطين بحدّ ذاته يحيد بالصحفي للبحث عن مواضيع بيئية لطرحها والابتعاد عن السياسية والمجالات الأخرى كي لا يدخل بدوّامة كبيرة لا يستطيع من خلالها تنفيذ زاوية واحدة
إن عدم تقبل وجود فكرة التحقيق الصحفي في فلسطين بحدّ ذاته يحيد بالصحفي للبحث عن مواضيع بيئية لطرحها والابتعاد عن السياسية والمجالات الأخرى كي لا يدخل بدوّامة كبيرة لا يستطيع من خلالها تنفيذ زاوية واحدة
 

مروراً بمساقات عدّة، كنت أتأمل لحظة التسجيل بمساق الصحافة الاستقصائية، هناك حيث الصحافة بمغامرةٍ أكبر، والتعبُ فيها أكبر لكن لن تشعر به حين إنهائك تحقيقاً كبيراً تلحظ نتائجه من تعليقات القرّاء له، فأنهيت هذا المساق بأربعة تحقيقات استقصائية كبيرة تمّ نشرها جميعاً. هناك ثلاثة أشخاص هم اللبنة الأساسية لحبّي الخوض في الصحافة الاستقصائية من أستاذي الجامعيّ أيمن المصري، حتى المدرّب في وكالة أريج سعد حتّر، والإعلامي الفلسطيني محمد دراغمة.

 
في محاولة لتعميق فكرة الصحافة الاستقصائية في الوطن العربي، بدأت وكالة أريج (إعلاميون من أجل صحافة استقصائية) خطواتها لتدريب عدد كبير من الصحفيين ليمارسوا مهنة التحقيقات بحرفية كبيرة، وباشرت من خلال مدرّبيها إلى التفاعل مع أكبر عدد ممكن من صحفيّي الوطن العربي من أجل نشر الفنّ الاستقصائي، وجمع الصحفيين بملتقى سنويّ لدمجهم بورشِ كبيرة وتتبّع عملهم مباشرة، كنت قد شاركت معهم السنة الماضية وحتماً تجربة لا مثيل لها. كثيراً ما يرتبط مفهوم الصحافة الاستقصائية بالقضايا السيّاسية بعقل القارئ، لكنّها ترتبط بمجالات الصحافة جميعها سواءً أكانت اجتماعية، بيئيّة، ثقافية، ورياضيّة.. إلخ.

 

محاولات عدّة تبذلها مؤسسات في فترات محدّدة كمشاريع مؤقتة لتطوير الصحافة الاستقصائية، لكن الخلل يُعالج بإعادة النظر بتدريس مساق الصحافة الاستقصائية في كليات الإعلام بشكل أكبر وعلى مراحل كثيرة

وفي فلسطين، حيث يحدّ عدم تطبيق قانون حق الوصول إلى المعلومة تنفيذ تحقيقات استقصائية، يقضي الصحفي قرابة سنة أو أكثر بمحاولة البحث عن وثيقة أو إجراء مقابلة مع مسؤول للوصول إلى معلومة صغيرة، فأحياناً او غالباً ما يتمّ إغلاق المكالمة الهاتفيّة أو رفض المقابلة أو إعطاء معلومات لا تفيد التحقيقي بشيءٍ، وختماً قد يتمّ طرد الصحفي من المكان. ثغرات القوانين الموجود في فلسطين، إضافة لعدّم تقبل وجود فكرة التحقيق الصحفي بحدّ ذاته يخوّل الصحفي للبحث عن مواضيع بيئية لطرحها والابتعاد عن السياسية والمجالات الأخرى كي لا يدخل بدوّامة كبيرة لا يستطيع من خلالها تنفيذ زاوية واحدة.

 
من جهة أخرى، فكرة التشهير الدارجة في عقول الجميع، والتقدّم بشكاوٍ على الصحفيّين المثيرين لقضايا جادّة يُبعد الصحفي عن إنجاز تحقيقات كبيرة، غير أن المؤسّسات الإعلامية لا تعطي جهداً حقيقياً للصحفيّين لإرسالهم نحو البحث والتقصي، والاكتفاء بالتقارير ونشر الأخبار لأنها تتطلب جهداً ووقتاً أقل من التحقيقات التي قد تطول لسنة أو أكثر.

  

أما بخصوص تدريس الصحافة الاستقصائية في جامعات فلسطينية فهو لا زال بحاجة لإعادة تأهيل كبير سواءً بطريقة التدريس، الإشراف، طرح الفكرة أو تتبع الإنجاز النهائي، فمساق واحدٌ يطرح التحقيقات بشكل سطحيّ لا ينمّ عن فائدة للطلبة، فثلاثة أشهر فقط لا تكفي لطرح فكرة وتطويرها ثم إنجازها، والمتتّبع حالياً للتحقيقات الاستقصائية يلحظ بوضوح إدماج الإنفوغرافك والنسب الإحصائية بداخلها كي تقوّي من قيمة المعلومات والتحقيق المنفّذ. إذن، هل سيسعى مساق واحد للصحافة الاستقصائية لإخراج صحفيين يستطيعون البحث بتعمقّ عن المعلومة مستفيدين من الحداثة بالصحافة، والطرق الجديدة؟

 
محاولات عدّة تبذلها مؤسسات في فترات محدّدة كمشاريع مؤقتة لتطوير الصحافة الاستقصائية، وإنجاز تحقيقات كبيرة، لكن يُعالج الخلل بإعادة النظر بتدريس مساق الصحافة الاستقصائية في كليات الإعلام بشكل أكبر وعلى مراحل كثيرة، ثمّ تدريب الصحفيين حول إجراء التحقيقات بشكل حرفيّ مستفيدين من تجربة وكالة أريج، وإعطاء مساحة حريّة لهم سواءً بحق الوصول للمعلومة أو بنشر التحقيق كاملاً دون إنقاص معلومات منه أو مقابلات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.