شعار قسم مدونات

خذ نفَسا عميقا.. أنت مجرد نكرة!

blogs- التعليم في تونس

تبدأ فرحة الفتى علي الذي لم يتجاوز العاشرة بعد، منذ السادسة صباحا في ذلك الجبل البعيد عن جميع سمات الحضارة والإسمنت، يهتم في صباح كل يوم، بشكل روتيني، بالدواب الذي تمتلكها أسرته الصغيرة المكونة من الأب الذي نادرا ما يكون حاضرا في المنزل، ثم الأم التي تحمل أعباء حياة المنزل بالإضافة إلى الأبناء الذين يتناوبون على الأشغال المنزلية…قلما يغادر أحدهم تلك القرية إلى المدن بحثا عن "طرف الخبز" الذي يتعذر إيجاده بين أهل تلك القرية الذين لا يؤمنون إلا بالعادات التي تقول بأن الشاب الذي لا شغل يدر له المال لم يصل بعد إلى مستوى الرجولة ولا زال يعيش الذل.
 

ثم يبدأ شقاء الفتى عندما يسمع أمه تُعْلمه باقتراب موعد الذهاب إلى المدرسة التي تعانق ذاك الجبل، تتناوب سويعات الدراسة في كل يوم، بين سويعات الصباح وسويعات بعد الزوال، يحمل كل يوم الفتى محفظته التي جرى ترقيعها من جميع النواحي حتى تتحمل وزن الكتب التي تفوق 10 كليو غرامات، ولا يهمه إن قصمت ظهره الهزيل.

لا فرق بين أحد فى التعليم العالي  الكل يحفظ حلول التمارين من أجل الامتحان وقد نجا من نجا عندما هرب إلى الخارج من أجل الدراسة.. العبثية في القوانين، الأساتذة الجامعيون بارعون في الفرعنة واستغلال ثغرات القوانين.

في صباح الأيام الشتوية بعدما يستسيغ تذكير أمه للدراسة يحتسى الشاي المغلي بسرعة حتى يلصق لسانه خوفا من تفويت موعد الدخول، ثم يحمل الأسفار على ظهره متوجها إلى المدرسة في ذاك اليوم الضبابي الصقيعي، يفقد الفتى شعوره بأنامله الطرية جراء الصقيع، رذاذ الضباب البارد أشعره بأن أذنه لم تعد تنتمي إلى جسمه الصغير، ثم تبدأ التعاسة: وأخيرا لقد وصل المعلم الذي أتى متأخرا من بلاد الحضارة الذي لا يكاد يفتح عينه جراء غلب النوم، يفرغ جم غضبه على الغلمان.

 

عدم استواء الصف قبل الدخول إلى الفصل يساوي شحطتين بالأنبوب البلاستيكي الأسود، دون احتساب مكان الضربة، أو في أحسن الأحوال يستعين الأستاذ بعصا يصنعها بسرعة من شجرة الطرفاء الفتية، وهي أقل تأثيرا، التي تحيط بالمدرسة النائية عن القرية.. دخل الغلمان، الوشوشة في ظل قيلولة القصيرة الصباحية التي يستعين بها المعلم قبل استهلال الدرس، تساوي عشر شحطات تحمل بضع كيلو جول من الطاقة، يبدأ الدرس، الكل يجب أن يكون قد حضر واجباته الكثيرة، وكل تقاعس يساوي عددا من الشحطات حتى يرغب المعلم عن ذلك، في الاستراحة التكلم بصوت عال ثم الألعاب الحركية كالجري وكرة القدم دون الاستعانة بتأطير المعلم يساوي كميات أيضا من طاقته التي يفرغها على أيدي الغلمان.

في عالم الحضارة الغلمان أقران الفتى يعيشون نقيض حياة علي ومن شابهه، يدرس الفتى الحضري فصولا تمهيدية قبل الدخول في التمدرس الرسمي، اللعب لا حدود له، التعبير البريء لا تسأل عنه، يرافقه أهله حتى باب المدرسة، لم يشعر بعقدة النقص قط، ينفق عليه أبواه مالا طائلا حتى يتقن اللغات، يتملق له المعلم لأنه يدرس في مدرسة خصوصية، ويحذر نفسه أن يعكر صفو التلميذ وأن يشعره بالملل.

كلا الفتيان لم يكونان قد استوعبا بعد الطريق الذي يسلكانها، أو لم يكونا قد اكتشفا أن عقولهما قد نخرا من قبل نظام تعليمي مستورد، لا زال يكرس لإيديولوجية الاحتلال الذي ولى وخلّى أذنابه تغسل الأدمغة لتعظيمه، ولم يكونا قد اكتشفا بعد أن ذلك النظام البيداغوجي غير بريء البتة ويخدم أجندة إقطاعية لا يمكنهما الوصول إليها، ولم يكونا قد استوعبا أن يكونا أميين بوعي صلب خير لهما من أن يكونا متعلمين بوعي ميت والاكتشافات لا تنتهي في اللاحق.

تتجسد الخلفية الطبقية الاجتماعية بين الفتيان بشكل ملحوظ عندما سيلتقيان بعد بضع سنين: سنون من المعاناة والكد والجد والمجهودات والشخصية والتكوين الذاتي ونسف "معيقات الوسط" بالنسبة للفتى علي، وسنون من التحفيز والاستشارة عن المستقبل والدعم النفسي والمعنوي بالنسبة للفتى الحضري، لكنهما في النهاية وصلا إلى نفس النقطة. بطن الأستاذ الجائعة تنادي من جديد، يتعمد الاستاذ الجائع سوء شرح الدرس لكي يضغط على الأغنياء في فصله لأجل الساعات الإضافية مسبوقة الدفع والتي يمرر خلالها إليهم عناصر إجابة الامتحان … ليصل الفتى علي إلى مؤشر آخر على هزالة النظام البيداغوجي. لا مشكلة، كل شيء يأتي بالأمل.

تمر السنون ويلتقي الفتيان من جديد لكن في نظام تعليمي جديد: التعليم العالي، إنه أكبر وَأْد للعقل في دول العالم الثالث، يمكن اختزال وصفه فيما يلي "بضاعتنا رُدّت إلينا"، لا فرق بينهما اليوم، كلاهما يحفظان حلول التمارين من أجل الامتحان وقد نجا من نجا من أقرانهما عندما هرب إلى الخارج من أجل الدراسة.. العبثية في القوانين، الأساتذة الجامعيون بارعون في الفرعنة واستغلال ثغرات القوانين، زد على ذلك المستقبل البئيس الذي ينتظرك في سوق الشغل والزبونية والمحسوبية وعدم الكفاءة في المناصب والفساد الإداري.. لتدرك أن أنك مجرد نكرة تستهلك الأكسجين في العالم الثالث مهما بلغ علمك ثم يأتي أحد المناضلين يرفع شعار: لا لهجرة الأدمغة.

لا ينكر أحدنا أن التعليم هو قبس الشعوب نحو واقع جميل، نحو وعي بما لك وما عليك، نحو التنوير والتطوير في جميع الميادين، ومجتمع جاهل هو مجتمع سهل التحكم والاستغلال.

يشطاط المسؤولون غضبا عندما تنشر إحدى المنظمات الدولية تقريرا ينتقد واقع التعليم في دول العالم الثالث أو تصنفهم من بين الأوائل من المتأخرين، إنهم يتفاخرون بمستوى التعليم الذي يسير نحو الخصخصة وطحن أبناء الشعب. لقد كان التعليم هو النافذة البيضاء الذي يرنو من خلالها ابن الكادح نحو واقع جميل أقله أن يعيش أفضل من ظروف والديه، لكن سياسات السلطة تبذل ما في وسعها لكي يغدو ابن الكادح أكثر كدحا من أبيه وابن الإقطاعي أكثر إقطاعية من أبيه.

 

ذاك المعلم قلص أيام تدريسه في مدرسة القرية إلى أنصاف يومين في الأسبوع والباقي يقضيه في المدرسة الخصوصية في الحاضرة لأنها تدر له دخلا جيدا وقريبة من مسكنه، وخول المال لابن الغني فلان-الذي لا يفرق بين قوانين نيوتن- الذي التحق بمدرسة عليا خصوصية دبلوما مكافئا لدبلوم مدرسة عليا عمومية يدرس فيها النخبة من العقول.

لا ينكر أحدنا أن التعليم هو قبس الشعوب نحو واقع جميل، نحو وعي بما لك وما عليك، نحو التنوير والتطوير في جميع الميادين، ومجتمع جاهل هو مجتمع سهل التحكم والاستغلال. المواطنة ليست مجرد شعارات يرفعها السلطويون في الأعياد الوطنية إنها ثمرة الوعي الذي لن يأتي إلا عبر التعليم الذي تتساوى فيه الفرص بين بن الكادح وبن الإقطاعي.

 

التقدم ليس هو ذاك الوهم الذي تذيعه السلطة إنه نتاج سيرورة طويلة صلبة لن تأتي إلا بالتعليم. التجرد من عار "دولة العالم الثالث" لن تكتسبها الدولة إلا بالتعليم. الهستيريا المجتمعية وتخلف عقلية المواطن وبدائية نمط عيشه التي بالتأكيد من المصلحة العامة لن تشمها إلا بالحرص على نشر الوعي وتعميم التعليم، الظواهر المجتمعية السلبية التي تخاف الوعي والتعليم لا تنتهي.. وخلاصة القول إن التعليم المتكافئ يبعث لك الأمل أن تغير صفة النكرة التي بدون ذاك النوع من التعليم ستكون كذلك بلا شك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.