شعار قسم مدونات

كاتالوج الوعي

blog وعي

في واقع متسارع الأحداث ومتغاير الاتجاهات، نجد أنفسنا أمام حقيقة أن السنوات الأخيرة رسمت كثيرا من النقاط البارزة المتقاربة على صفحة التاريخ الذي يمكن أن تكون هذه المدونات إحدى مخطوطاته في المستقبل.

التسارع الواضح في الأحداث التي يمكن أن نسميها "مصيرية" على الصعيد السياسي او المجتمعي، يحمل -في رأيي- بين طياته تسارعا أكبر في مدى تغير مساحات الوعي عند صانعي الواقع او حتى متابعيه ، فالفرد العربي الذي عاش فترة الخمسينات والستينات لم يكن يتداخل مع هذا الكم الزخم من الأحداث.
 

وربما بدا في مصطلحات القادة في تلك الفترة ما يعطي انطباعا عن مدى كون الشارع -في تلك الفترة- متابعا لا أكثر، كمقدمة "أيتها الجماهير.." التي كانت تعلن بداية الخطابات السياسية، لكن الفرد المعاصر الذي يشهد الكثير من التفاعلات بات أكثر تأثيرا في صنع اتجاه عام أو تغييره، بات أكثر من مجرد "جمهور" ، والوعي هنا مصطلح بات يتردد كثيرا في المنصات الإعلامية كمتسبب في تلك النقلة النوعية..
 

من الصعب القول إن الأحداث تصنع الوعي الحقيقي، نحن أمام ثقافة تتعامل مع الوعي على أنه "كاتالوج" ويظهر ذلك في التجربتين التركية والمصرية

دعونا مما قد يندرج ضمن "بروباغاندا الوعي" ، ولنسأل سؤالا حقيقيا: أيها كان له التأثير الأول، الوعي صنع الأحداث أم الأحداث صنعت الوعي؟ البعض قد يرى السؤال وجهًا آخر لمعضلة البيضة والدجاجة، والبعض قد يجزم بإجابة دون الأخرى مستشهدا ببعض التجارب المعاصرة كدليل على صحة إجابته، لكنني أزعم أن السؤال أعمق من أن تجيب عنه تجربة أو اثنتان، في واقع تتداخل فيه متغيرات المعادلة صانعة معادلة جديدة ضمنها..

الوعي فعليا ليس دليل مستخدم او "كاتالوجا" نلجأ إليه كلما حيّرنا أمر جديد لا نعرف خطوات إجرائه، ولكنه القاعدة الفكرية التي تجعل كل فرد يصنع "كاتالوجا" للخطوات التي يستحسن أن تُفعل، وتجعل المجتمع يجمع هذه "الكاتالوجات" على كثرتها ليصنع واحدا يتضمن كل مشاكل الأداء السابقة ويدرج تحتها الحل المقترح لكل منها، المقترح وربما الأمثل، لكن الوعي بحقيقة أن هذا "الكاتالوج" قابل للتغيير خاضع للمتغيرات التي تطرأ على الساحة مهم جدا، فربما تكون "قلة الوعي" أحيانا مساهمة في إنتاج هذا "الكاتالوج" كما كانت مساهمة في صناعة أحداث عديدة على مر التاريخ.

 

ونخلص من هذا الى أنه من الصعب إطلاق القول بأن الأحداث تصنع الوعي الحقيقي، خاصة إذا ما تنبهنا الى أننا أمام ثقافة تستمتع بالتعامل مع الوعي على أنه "كاتالوج" ويظهر ذلك جليا في المقارنة -مثلا- بين التجربتين التركية والمصرية الأخيرتين، ومعترفين كذلك أن نوافذنا الإعلامية تصنع وعيا موجَّها لا يمكن التسليم بحياديته..
 

إذًا، لا نستطيع الزعم بأن الأحداث تصنع وعيا حقيقيا في واقعنا، فهل الوعي هو الذي يصنعها؟ وهل هذا يفسر اختلاف مجرى الأحداث بين التجارب المختلفة التي نعايشها؟

مرة أخرى أزعم أننا يجب أن نحفر في الإجابة عميقا، إذ المتوقع إذا اعتبرنا الوعي صانعا للمجريات أن نتسائل عن مدى تأثير الوعي على مجرى الحياة حتى وإن خلت من ذلك النوع من الأحداث، فأين هو الوعي من خلافاتنا البسيطة التي تنتهي عادة بما لا تحمد عقباه، وكيف يمكن تفسير هذا الكم من الأحكام العاطفية على القضايا المجتمعية في ظل زعمنا بوجود وعي مؤثر قادر على صناعة أحداث مصيرية كالتي نواجهها.

إننا هنا أمام حالة تناقض، فالتجربة التي نجد نتائجها تتماشى مع أيديولوجيتنا هي تجربة صنعها الوعي ونال منها نصيبا وافرا، والتجربة التي خالفت تلك الأيديولوجية هي تجربة لم تكن واعية، بل خالطها كثير من الجهل وقلة إدراك للعواقب، وقد نصل الى الحد الذي ننكر فيه أحقية التجربة من الأساس خاصة إذا ما عزفنا على وتر نظرية المؤامرة، وهذا يوضح مدى تأثر وعينا العام بالفكر العاطفي المتغلغل فينا، ومدى غياب الموضوعية في تعاملنا مع الأحداث.
إذًا، الوعي الحقيقي غائب عن صناعة الأحداث، فما الأجابة؟!
 

نحن أمام حالة تناقض، فالتجربة التي تتماشى نتائجها مع أيدولوجيتنا هي تجربة صنعها الوعي، والتجربة التي خالفت تلك الأيدولوجية تجربة لم تكن واعية.

في ظل وجود مساحة مشتركة من التأثر والتأثير بين الوعي والأحداث، تعالوا نسأل السؤال بطريقة جديدة ونترك للقارئ حرية التفكير والإجابة: أيهما صاحب التأثير الأكبر والمفصلي؟ هل الأحداث والمجريات على الساحة هى مصانع للوعي سواء كانت تل الأحداث مصيرية أم عادية؟ أم أن الوعي هو المؤثر الأكبر سواء كان وعيا حقيقيا موضوعيا أو كان مزيفا عاطفيا ؟

أزعم شخصيا أن ثمة حصى صغيرة قد كونت جبل هذا التساؤل، وهو زعم ينطلق من مفهوم القاعدة القيمية عند الفرد، فإذا كانت لبنة المجتمع الأساس -وهي الإنسان كفرد- مستمسكة بالمعنى القيمي للوعي ومنطلقة منه في الاتجاهين، فلا مشكلة عندها أن تسير من الوعي الى الحدث أو العكس، ولا يظل لاستفسارات هذا المقال داعٍ إلا حاجة فلسفية أكاديمية.

 

هذا إذا ما تكونت الحالة القيمية التي تزن الأحداث بموازينها وتقيس الوعي بموضوعية، الأمر الذي يجعل إجابات هذه الاستفسارات صعبة على مقال واحد، لأن القيم تحتاج حرثا وزراعة وسقاية وعناية ثم حصادا، ويجعل الاكتفاء بكلام الكاتب نهجا مغلوطا في التعامل مع قضايا ذات عمق قد يصح معه أم تسمى "فلسفية".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.