شعار قسم مدونات

أنا حلب.. أوصيكم بخمس وصايا

blogs- حلب

أما وأنه لكل راحل عن الديار وصية يوصي به مَن بَعدهُ، لِينيرَ دربه ويُعرِّفه بصديقهِ وعدوه، ويترك له ميراث دروسه من حياته، ويخط له أنوار طريقه التي سيسير بها في حاضره ومستقبله، كان لحلب وصية أحبّت أن تتركها أولاً لما تبقى من حلب، ثم لأخواتها من مدن الشام وأحبابها من دول الثورات العربية، وها هي تتكلم هنا بلسانها:

 

قبل أن أبدأ بوصيتي سأقدم لكم من أكون؟

أنا حلب، لقبوني بالشهباء، أقع في شمال الشام طريقي يربط بين الشرق الإسلامي وغرب العالم، أعتبر عاصمة الشام الاقتصادية لكثرة خيراتي ومهارة أبنائي وممراتي التجارية، تعاقب عليّ الغزاة كثيراً فما من حرب أو حملة صليبية قصدت المشرق الإسلامي إلا وتعمدت احتلالي وتركيعي، إلا أنني كنت عصية أبيّة بهمة رجالي، وإن انقدت لريح الغزاة يوما لضعفٍ فإني لا أنحني أو أميل لمحتل دوماً.

 

أمّا في التاريخ المعاصر فإنه ومع انطلاق شرارة الربيع ووصولها للشام كنت أول من انتفض بعزة وكرامة ضد النظام اللاإنساني معلنة ثورتي على الظلم والظالم، فاتحةً كل دياري لأهل الحرية والوفاء، ومرحبةً بمن أحب أن يساندني وأهلي من كل العالم والبلدان، حتى استطعت أن أدحره عن أرضي وأسكنت المحبين والوافدين والقادمين ولكن! لم أعد حلب التي تعرفونني فقد اقتسمني الأهل والأغراب وأضحيت مجزّئة حتى طمع بي الظالم مرة أخرى..

 

قتلتني الفرقة والتشرذم، وكم حاولت أن أوحدهم لكنهم خذلوني والدم يسيل مني، فاعتبروا واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، اجتمعوا على راية تجمعكم ألم تروا عدوكم اجتمع عليكم وهم من ألف مِلة.

عاد النظام مدعوماً بالمليشيات الإيرانية واللبنانية ومرتزقة أخرى ومساندة الجيش الروسي لتركيعي ثانية ولأكثر من 4 أعوام وأنا أقاتلهم قتال الحر الذي يأبى العبودية، بثورة يتيمة وسلاح من صنع يديّ، قاتلت حتى الرمق الأخير وتحملت ظلم ذوي القربى وخيانة صديق الأمس، لكن هي سنة الله في التدافع وقوانين النصر والتمكين لم تتوفر بعد.. وإن جفت أمطار الشتاء يوماً فإن دمائي لم تجف ولم تقف لحظة واحدة حتى استطاع أن يجتزئ منّي جزءا ويضرب حصاراً على جزءٍ عزيز عليّ وهو حلب القديمة حيث المسجد الأموي، وسقط هذا الجزء بعدما اشتكى الحجر والشجر من بطش البشر وسالت الدماء أودية وأنهاراَ، وزعم الطاغية أنه انتصر، وهنا اساله على ماذا فرحت وانتصرت؟ ولم يبقى فيها أي بشر!

 

وسمع بي أصحاب الأخدود فنادوني تسليةً وعزاءً، نهجكِ نهجنا فكرتكِ علت وانتصرت، قُتلنا جميعا ولكن انتصرت عقيدتنا وبقيت رايتنا، وأنطق الله طفلنا الرضيع ليهتف اثبتي أماه إننا على الحق حتى فارقنا كلنا الحياة.. ومن قلب هذا الألم جاءت الوصية التي أحببت أن أتركها لكم وهي خمس وصايا كتبتها بالدم قبل الحبر:

 

1. قتلتني الفرقة والتشرذم، وكم حاولت أن أوحدهم لكنهم خذلوني والدم يسيل مني، فاعتبروا واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، اجتمعوا على راية تجمعكم ألم تروا عدوكم اجتمع عليكم وهم من ألف مِلة.

 

2. آلمتني الغربة والوحشة فلم أشعر بمساندة أخواتي من مدن الشام، كنت وحيدة بين أنياب ومخالب ومصاصي دماء من أشباه البشر، فتعلموا جيدا أن تتبادلوا الاسناد بينكم ولا تتركوا أحدا وحيداً وفريسة لعدوكم الذي يحب الاستفراد ويجبن ويخاف من الحشود والجموع.

 

3. أتقنت فن الصراخ والعويل عندما قالوا لي اصرخي لعلكِ توقظين فيهم همة المعتصم أو نخوة ابن الوليد، فصرخت كثيراَ حتى علم بي من همُ على القمرِ وحتى الذين في مناجمِ الفحمِ من البشر، لكن! وجدتها أمة خنعت وصمّت آذانها لداع الشرف والجهاد، وصاح بي الشاعر قائلاً:

يا أمتي وجب الكفاح فدعي التشدق والصياح

لغة الكلام تعطلت إلا التكلم بالرماح

عاد الصليبيون ثانية.. وجالوا في البطاح

لا بد من صنع الرجال ومثله صنع السلاح

 

ألا ليت قومي يعلمون ويعتبرون ويتعلمون، فو الله يا شام لولا أن قومك دمروني وأخرجوني منكِ ما خرجت، وإن غداً ليوم الفتح لقريب وإنا مرتقبون وإنا لعائدون..

4. خمسة سنواتٍ كفيلة بأن علمتني درساً لن أنساه وهو لا أضع على نفسي حدوداً، فهي التي كبلتني وجعلتني أدافع وأنا في بيتي أنتظر العدو القريب والبعيد لِينقضّ عليّ، فلم أبادر يوماً لمهاجمته ومطاردته واكتفيت بنفسي حتى تصافى كل دمي، فتعلموا أن تهاجموا عدوكم وتطلبوه في كل موطن، أذيقوه ألماً وبأساً شديداً، ولا تستقروا في مكان حتى يستقر المقام.

 

5. تعودت أن أرحب بكل من وطئت قدماه أرضي، لا أفرق بين عجم ولا عرب ما داموا أحبوا زيارتي، وكذا استقبلت كل من أراد مناصرتي ويا ليتني لم أفعل.. غدوت بعدها ضيفة لا مُضيفة، تحوي فِرقاً لا فرقة واحدة، وألسنٌ لا لسان واحد، فلم أعد أعرف مع من أتكلم حتى وصل بهم الحال أن أرقوا دماء بعضهم في أرضي تحت شعار حمايتي، ناديتهم بالوحدة وبالرجل الواحد فاستغربوا النداء وقالوا أهبلت! حتى فرح العدو بهم وباغتهم وجمعهم في المقابر والسجون أو خطوط النزوح والهروب، فانتبهوا جميعا! كل ضيفٍ يحط رحاله أرضك اجعله تحت راية واحدة ولا تسمح له بالجنوح فمن رغب عن ذلك اطرده.

 

ألا ليت قومي يعلمون ويعتبرون ويتعلمون، فو الله يا شام لولا أن قومك دمروني وأخرجوني منكِ ما خرجت، وإن غداً ليوم الفتح لقريب وإنا مرتقبون وإنا لعائدون..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.