شعار قسم مدونات

كارثة التصنيف والقوّلبة في العالم العربي

blogs - تصنيف
عندما تطرح رأيك في مسألة ما سواء سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو مهنية، في أي زمان ومكان كنت، تنهال عليك الأنظار والألسنة والتحليلات بقصد أو بلا قصد، من هذا الرجل؟ ماذا يقول؟ ماذا يريد؟ من وراءه؟

 

إنه مدعوم من الدولة، ابن الدولة، يبدو أنه إخوان مسلمين، لا إنه محسوب على التيار الليبرالي، إنه علماني يا رجل، إنه شيعي أو سني أو أشعري، جنوبي شمالي شرقي غربي، أو يصنفك حسب دولتك يالأردني يا المصري يا السوداني يا السعودي.
 

ظاهرة سلبية في العالم العربي كارثة التصنيف العشوائي التي يمارسها البعض الآن وبكثرة بعد انتشار وسائل الإعلام الجديد وعبر التكنولوجيا الذكية.

تصنيفات لا تعد ولا تحصى وبالتالي تتشكل لدى الأفراد من خلال الانطباع الأول وبشكل مباشر عند سماع رأيك أو النظر إليك صورة ذهنية مصنفة حيث يضعك ضمن قالب ما ويمكن أن يبادر ويتقدم مشكوراً بالتشهير بك وبسمعتك أو شتمك علناً عبر كافة وسائل الإعلام الجديد إن لم يعجبه تصنيفك أو رأيك.
 

لا أدري هل هي ظاهرة أفرزتها القبلية والعشائرية العربية منذ القدم، أم هي قضية تاريخية، الذي أعرفه قول الله تعالى "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا.." صدق الله العظيم، وقوله تعالى "ولقد كرمنا بني آدم.." صدق الله العظيم، وقول النبي صلى الله عليه وسلم "أفشوا السلام بينكم"، دعوة لتقبل الأخر والتكامل مع الآخر بلا حدود أو تصنيفات.

تعدى الموضوع التصنيف ضمن قوائم معينة حزبية أو مذهبية أو دينية أو اجتماعية أو عادات وتقاليد، أصبح الشكل واللباس والتصرفات أيضا تصنف وهذا ليس أمراً جديداً إذا كنت بلحية لك تصنيف وبدون لحية لك تصنيف، اذا كانت لحيتك طويلة لها تصنيف وإذا كانت قصيرة لها تصنيف، لذلك لا بد قبل أن تخرج من بيتك كل صباح أن تمارس كل عمليات التجميل الكاذب من أجل حماية تصنيفك لهذا اليوم.
 

ظاهرة سلبية في العالم العربي كارثة التصنيف العشوائي التي يمارسها البعض الآن وبكثرة بعد انتشار وسائل الإعلام الجديد وعبر التكنولوجيا الذكية، فهي أرض خصبة للتحدث في أي شيء حول أي شيء، كل ما تقول أو تتصرف حتى لو كان رأيك الشخصي يضعك ضمن قوائم التصنيف العربي.

التصنيف ظاهرة سلبية لا تمت بصلة للإبداع والابتكار والتطوير والتقدم والحضارة والتنمية، إنها حدود وقوالب جاهزة معده مسبقاً في ذاكرة الجاهلية البالية، وعقول التخلف القديمة التي أكل عليها الدهر وشرب، إلى أين سيصل بنا القمع وقتل الحريات يا ترى؟
 

باتت كل فكرة أو شخص أو رأي أو مبادرة أو هوية ضمن صناديق صغيرة مقفلة تمنعنا من النمو والاستقرار وقنص الفرص وأخذ المساحة الحقيقة لك كإنسان في هذا العالم، إنه لحق لك أن تمارس حريتك رأيك أفكارك إبداعاتك بدون قوالب جاهزة، إننا بشر لسنا قطعة كيك داخل فرن يصنعنا من يريد ويحركنا من يريد ويضيف علينا نكهته من يريد.

قد يكون التصنيف أمراً طبيعياً ضمن دائرة الاختلاف، وبعد ظهور الأحزاب والاتجاهات والمذاهب والقبائل والعشائر، وتدخل الأنظمة الداخلية والخارجية في تقسيم الناس، بل ظاهرة طبيعية جداً بعد تقسيم العالم العربي إلى دول فأصبح كل شيء لدينا مقسم ومفتت ومصنف، لكن لا بد أن لا ننسى شيئاً مهماً أننا بشر في نهاية المطاف لنا حقوق الإنسانية الطبيعية، ليس من حق أحد أن يجردك من إنسانيتك ضمن تصنيفات مقيته ولعينة.
 

التصنيف والقوّلبة لغة استعمراية هدفها تقسيم وتفتيت الطاقة البشرية وقوّلبة أراء الناس وإطلاق الأحكام عليهم لقتل أفكارهم.

هناك تصنيفات طبيعية إيجابية تساعدنا على التنمية والتطور والبناء واحترام الرأي الآخر، احترام الوجود والكينونة يمكن تلخيصها بأربعة عناصر أساسية وهي: 
 

الأول: الإنسانية 
من الطبيعي احترام إنسانيتي قبل أن تصنفني أيها السيد ضمن قالب ما تذكر أنني بشر لي حقوق البشرية كاملة سواء غني أو فقير، مسلم أو مسيحي، عربي أو أجنبي، حنفي أو شافعي، حزبي أو حكومي، شمالي أو جنوبي، أنا إنسان تذكر ذلك.
 

الثاني: المهنية
عندما أكون مهنياً متخصصاً في مجالي أقوم بعملي على أكمل وجه لدي العلم الكافي والأداء المتميز فيما أفعل بيني وبينك التقييم المهني أو تقييم الأداء، والتصنيف هنا علمياً بحتاً ضمن معايير مهنية واضحة لا يختلف عليها اثنان وضمن أطر متفق عليها عالمياً.
 

الثالث: القانون 
احترام القانون فإذا كنت تطبق القوانين وتحترمها فلا يحق لأحد تصنيف أحد، لأن القانون للجميع لتحقيق العدالة للجميع، فإذا كان رأيي لا يخالف القوانين ولا يضر في قوانين الدولة التي أعيش بها فالتصنيف هنا لا معنى له.
 

الرابع: حرية الآخرين
إذا كان رأيك لا يؤذي الآخرين ولا يعرض حريتهم للانتهاك، وتم طرحه ضمن معايير الأدب والأخلاق العامة، فالتصنيف مقيت هنا، دعني أتكلم واتصرف بحرية مطلقة .

وبدلاً من ممارسة عمليات التصنيف البشري وصناعة القوّلبة الشخصية وقوّلبة حريات الناس، كن إيجابياً داعماً واعياً مارس حريتك بفاعلية واحترم حرية الآخرين وادعمهم، يعتبر ذلك من الصحة النفسية، والرضى الداخلي، وهي دعوة مفتوحة للمصنفين بشكل عام في عالمنا العربي دعنا نركز جهودنا في موضوع بنائي داعم ولنترك شخصية المخبر والمحلل وراءنا.
 

كيف نسمح لأنفسنا أن نضع الناس ضمن صناديق مقفلة في عالم مفتوح ومتطور كالعالم الذي نعيش، إنها كارثة فعلاً لذلك علينا أن نستبدل التصنيف باستراتيجيات داعمة ومؤثرة وعملية أفضل لنا من ممارسة تلك الشخصية الاستعمارية المدمرة، وتذكر هنا إذا قمت بتصنيف شخص ما فأنت أيضاً مصنف ومقوّلب لأنك قمت بتصنيفه بناءً على آرائك ومعتقداتك ومعاييرك وتوجهك ومعلوماتك أنت، لذا هناك ثلاث طرق تعتبر بديلا أفضل للتصنيف هي:

الأولى: الاستماع المتفهم 
كما يقول ستيفن كوفي في كتابه البديل الثالث استمع استماعاً متفهماً، أي افهم ما يريد الآخر قوله افهم مغزى رسالته بوضوح، لنكن مستمعين جيدين بدلاً من مصنفين بارعين.
 

الثانية: خذ الفائدة
لا عليك مما يقول البعض إن لم يعجبك شخصاً ما أو توجها ما فلناخذ ما هو مفيد لنا، ولنلق بأي شيء ليس مفيداً، لست مضطراً لإدخال أية معلومات أو مشاهد غير مفيدة لعقلك الواعي واللاواعي.
 

الثالثة: تجاهل ما لا تريد
عدم قدرتك على تحمل رأي أو تصرفات أو مبادرة شخص ما فتجاهله أيسر وأسهل ولا تضيع وقتك وطاقتك واستثمر رأيك وأفكارك في اتجاه مفيد لك.

التصنيف والقوّلبة لغة استعمراية هدفها تقسيم وتفتيت الطاقة البشرية وقوّلبة أراء الناس وإطلاق الأحكام عليهم لقتل أفكارهم، أدوات هدم فعالة للإنسانية والمهنية وكبح لجماح تطور وتنمية الطاقة البشرية واحتضان كل فكرة عربية إيجابية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.