شعار قسم مدونات

التّنوع الثقافيّ ومسلمو أوروبا

blogs - muslims

من المعلوم أنَّ الأمم عَبْر الأعصارِ والأحْوال مرَّت بِمراحلَ متعددةٍ ومُتشعبة ومُتشابكة من التَّنوع الثَّقافي بجميع مستوياته العرقيّة والقوميّة والدِّينيّة والطَّائفية والإثنيَّةِ واللّغوية…إلخ، وأنَّ هذا التَّنوع مرَّ باتّجاهين اثْنين تقريباً، اتجاه إيجابيّ نهضويّ عمراني في إطار التّعايش والتّسامح والإخاء الإنْساني، واتْجاه سلبيّ، إذ كان هو السبب الرئيس لِلصراع البشري فكريّاً ودينيّاً وحضاريّاً، فكان بمثابة مِعول هَدم للحضارات والشّعوب على السّواء.
 

التّنوع الثّقافي هو سمة حضارية أو بالأحرى قانون حضاريّ؛ إذ ليس بوسع أيّ حضارة أو أمّة أنْ تنهضَ بمنأى عن غيرها من الثقافاتِ والشعوبِ والأمم الأخرى.

وفي ظلّ هذين الاتّجاهين اللذين مرَّت بهما الإنسانية فإنَّه بات من الضّروري والمُلح على الإنسان أنْ يقفَ مَوقف الفاحص السّديد والمفكّر الحَصيف إزاءَ هذا الوضع الإنْسانيّ شبه المُعقّد، وذلك بالنظر إلى هذا التنوع الثَّقافي على أنَّه سنةٌ كونية لا مناصَ منها، وأنّها تشكل بِنية العقل الجمعيّ للإنْسان ثقافيّاً ودينيّاً وعلميّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً.. إلخ، وتأسيساً على ذلك، لا بُدَّ من إحداث خَرق في جدار مُدونة الوعي الإنْساني حولَ طبيعة هذا التنوع وأنَّه جزءٌ من هذا الوجودِ العريض ولبنة من لَبناته الواعيةِ، وعلى هذا فإنَّ بَقاء الإنسان وفنائه رهنٌ بالإيمان بهذه الطّبيعة الإنسانية والتّعايش معها.

ولِتحقيق ذلك الخرق انتشرتْ فكرةُ التّكيّف مع التنوع الثَّقافي، فاعتنتْ بها مؤسساتٌ ومنظمات حكومية وغَير حكوميةٍ وعددٌ من العلماءِ والباحثين والمُفكرين وأصحاب الشّأن السياسي، ولا يخلو عامٌ -تقريباً- من انعقاد مؤتمر عن التنوع الثقافي أو نَشْرِ كتاب أو بَحث أو مَقال حولَ هذا الحقل الذي أصبح بَوتَقة معرفية مستقلة بِذاتها، وتنصبّ هذه الجهود في وضع قوانين وقواعدَ محليةٍ ودولية تتعلق بحقوق الأقليات والشعوب الأصليّة والمواطنة والدولة القوميّة والمساواة والعَدْل، فضلاً عن خَلْق أرضيّة مَفاهيميّة للتنوعِ الثقافي يكون لها الأثر الناجعُ على الفرد والجماعة؛ أجْلَ تبيانِ فوائد هذا التنوع ومخاطره. ولا ريْبَ أنّ انتشارَ فكرة التنوع الثقافي كانتْ، وما زالت، محلّ نزاعٍ عميق وتشتتٍ سحيق.

وعليه، فإنَّ أوروبا تعيش راهناً قلّ نظيره في ما يتعلق بالتنوع الثقافيّ، وذلك في جميع تنوعاته واختلافاته، كالأديان والطَّوائف والأعراق والإثنيَّات والثقافات والأيدولوجيات، ولا شكَّ، أنَّه تنوع ساهم إلى حدٍّ كبير وملحوظ في ازدهار أوروبا وتقدمها، وذلك في جميع المجالات والقطاعات. فمن المعروف أنَّ التّنوع الثّقافي هو سمة حضارية أو بالأحرى قانون حضاريّ؛ إذ ليس بوسع أيّ حضارة أو أمّة أنْ تنهضَ بمنأى عن غيرها من الثقافاتِ والشعوبِ والأمم الأخرى، والإفادة من تجاربهم، والاقتداء بفضائلهم، والاستعانة بآدابهم وعلومهم ومعارفهم، فالتحضرُ والازدهار عمليةٌ متراكمة مشتركة.

فإذا كانت أوروبا كذلك، وهي كذلك، فإنَّ نسبةَ ما يشكله المسلمون في أوروبا يُعدُّ السَّواد الأعظم في منسوجتها الثّقافية المُتنوعة والمتعددة، إذْ يقدر عدد المُسلمين في أوروبا زهاء 55 مليون، أي بنسبة 5.3 بالمئة من إجمالي سكان أوروبا. 

يُعتبر المسلمون في أوروبا حجراً فُسيفسائياً لا مفرَّ منه في اللّوحة الأوروبية هويةً وثقافة ووجوداً، ويشكِّلون لوناً من ألوانها، ويُعتدّ أكثرهم مواطنين أوروبيين بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فربَّما لا تخلو دولة أوروبية من ملمح إسلاميّ هنا أو ثمة، وأصبحت السمات الإسلاميّة كالمسجد واللّباس والمراكز والجمعيات الإسلامية سمةً بارزةً في المشهد الأوروبي، وتظهر جليةً في أهمِّ المعالم والأماكن، في المدن والقرى والشّوارع والجامعات والمدارس.. إلخ.
 

إنّ النظر إلى التّعددية الثقافيّة بطريقة تجعل المرء قادراً على أنْ يُسهمَ في هُوية وطنيّة عَبر إرثه، ورؤاه، ومعتقداته، يستلزم قبول مفاهيم مواطنة تثبّتُ الاختلاف بفعالية.

لقد أصبحَ للمسلمين الآن في أوروبا دورٌ بارزٌ لا يمكن إنكاره والتّغاضي عنه في نهضةِ أوروبا وعمرانها وازدهارها، وذلك في جميع المَجالات الحياتيّة: السّياسية والاقتصادية والاجتماعية والزراعية والتجارية.. إلخ، فَمِنَ المسلمين منْ يعمل طبيباً وأستاذاً جامعيّاً ومهندساً وممرضاً ومُعلماً وتاجراً ورجل أعمال وصحفياً وكاتباً ووزيراً وعمدةً، وظَهَرَ فيهم العالمُ والمفكر والأديب والفنانُ وغيرُ ذلك، وأغلبهم مَهَرةٌ وناجحون ومبدعون بحقّ، ولقد قدمت قناة الجزيرة في برنامجها البديع "موعد في المهجر" أمثلةً عديدة على تلك الشّرائح، التي أصبحت تُعدّ من بنية المجتمع الأوروبي وثقافته، ولقد أضافوا لأوروبا إسهامات تُحسب لها، مشكورة، وأعني: أوروبا الدولة لا أوروبا السياسة، في المعارف والعلوم وغيرهما.

يقول الناقدُ والأديب "سايمون ديورنغ" في كتابه "الدّرسات الثقافيّة: مقدمة نقدية" وذلك في مبحث "الهوية والتعددية الثقافية: إنّ النظر إلى التّعددية الثقافيّة بطريقة تجعل المرء قادراً على أنْ يُسهمَ في هُوية وطنيّة عَبر إرثه، ورؤاه، ومعتقداته، يستلزم قبول مفاهيم مواطنة تثبّتُ الاختلاف بفعالية، ويجب التعبير عنها وفقاً لحقوق المشاركة لدى المواطنين جنباً إلى جنب مع المسؤولية الحكومية في الحفاظ على هذه الحقوق. يسمح ذلك لنا أنْ نضمّن في الثقافة الأوروبية إسهامات المسلمين الذين يعيشون في أوروبا ويعملون فيها؛ إذ إنّ مسجداً في مرسيليا هو فرنسي -وهو أوروبي بالدقة نفسها- مثلما هي جائزة غونكور".

تعيش أوروبا ويعيش المسلمون -الآن- أسمى معاني التّعايش والتّسامح والتّلاحم، فالاختلاف وتداول الحضارات ناموس إلهي لعمارة الأرض ونهضتها وبنائها، يقول الله -جلَّ في علاه- في سورة البقرة: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" ويقول أيضا -تعالى وتجبّر- في سورة الحج: " وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ".

وهذه إشارة واضحة جليّة إلى أنّ الاختلاف بين البشر وتداول الحضاراتِ والأمم مُكوِّنٌ رئيسٌ وحتميّ لاستقرار الأرض وصلاحها، وذلك لانتفاء فساد الأرض وهدم الأديان و دور العبادة فيها. وهكذا، فلولا الاختلافُ وتدافع الحضارات لما تحققت الغاية من خَلْق الأرض وخَلْق الناس عليها، ولفسدتْ وهَلَك أهلُها جميعا، وجاءت الآياتُ في سياق قيام الحقّ على الباطل، ودحر الظّلم الذي يَعيثُ في الأرض الخراب، ويَحُولُ بين المرء ودينه ومعتقده. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.