شعار قسم مدونات

الطَّابور

blogs - people
لا يتمتع بالعروبة الحقيقية من لم يقف يومًا في طابور، من طابور الصباح المدرسي، إلى طابور الكشاف، ثم طابور الخبز وطابور الوقود، وطابور الدوائر الحكومية وغير الحكومية. وأخيرا بعد الربيع -الذي حوله الطغاة والغلاة إلى جحيم- أصبح العربي يقف في طابور توزيع البطانيات والغذاء والدواء، وفي طابور المعبر، وفي طابور الصعود إلى الباص الأخضر.

الناس في الطابور، أيّ طابور، يلبسون لباس الحاجة، ويعتلي وجوههم قترة البؤس، كأنهم في طابور السَّوق العسكري الموحد.

النظر والتحديق في (نقرة) الشخص الواقف أمامك إن كنت أطول منه، أو في قفاه إن كنت أقصر، تلقي الضربات والركلات والنعرات، ألم الساقين والظهر، وربما الأضراس، كلها أعراض جانبية للوقوف في الطابور. لكن، لظاهرة الطابور ناحية اجتماعية إيجابية، ألا وهي كسب ما يمكن تسميته بأصحاب الطابور، إنه أشبه بصالون أدبي، أو منزول عربي تتبادل فيه الحديث والأفكار لوقت إجباري طويل، فيصبح لديك -وذلك قبل اختراع وسائل التواصل الاجتماعي مالئة الدنيا وشاغلة الناس- مجموعات من الأصحاب التخصصيين، كأصحاب طابور الخبز مثلا، أو حتى أصحاب طابور الاسمنت، أو طابور الإغاثة، يجمعكم هم واحد، وهدف واحد، وطابور واحد.

الناس في الطابور، أيِّ طابور، يلبسون لباس الحاجة، ويعتلي وجوههم قترة البؤس، كأنهم في طابور السَّوق العسكري الموحد. تسمع في هذه الطوابير قصصًا وحكاياتٍ، منها صادق ومنها نسج أحلام وخيالات، هذه تحكي عن زوجها الكسول، الذي رفض الحضور فاضطرت هي للاصطفاف في الطابور، وتحكي عن أبيها -وهي ككل فتاة بأبيها معجبة- كيف كان قد نصبها أميرة البيت، تطلب فيأتيها رزقها صباح مساء، ثم تقول: "ما علينا".. وذلك يحكي عن دوالي الساقين، والحديث عن الدوالي في هذا الموقف ذكاء أدبي، حيث يستطيع كل من يسمعك من أصحاب الطابور أن يحس بألمك وعذابك. وآخر يثرثر بما يشبه المادة المالئة في علم العقاقير، كلام علمه لا ينفع وجهله لا يضر، مهمته فقط تعبئة الوقت، كموسيقا تصويرية لا أكثر.

وتبدأ أذنك في انتقاء الحكايا، وعقلك في فرز الناس، لتشكل في هذا الطابور اليومي ما يشبه (اللوبي) أو التآلف الخاص بك، ولهذا التجمع ميثاق عرفي، يتمحور حول توحيد الموجة عند حصول تدافع مثلا، وتوحيد طرق الضغط والشوشرة، وربما بث شائعات تخدم مصلحة التجمع وتيسر أموره سريعا، وطبعا من ضمنها تمضية وقت الفراغ بالسخرية من التجمعات الأخرى، ولا يخلو الأمر من همز ولمز وغمز. وربما تتطور الحالة، ليشكل هذا التجمع طابورا ثائرا يعمل على قلب نظام الطوابير من الداخل، وهيهات هيهات، فإن ثقافة الطابور تُرسخ باستمرار، حتى مع انتشار ماكينات الصراف الآلي، وماكينات القهوة والعصير، وحتى البيتزا الآلية. إلا أنك ما تزال مربوطا بثقافة الطابور التي لا يخرج عنها إلا متنفذ أو صاحب واسطة، وهم من يمررون القانون من تحت الطاولة.

إن ثقافة الطابور، هي حالة متطورة عن ثقافة القطيع، وبالتالي فإن ثقافة القطيع أكثر تحررا في التعامل مع الأتباع، وأقل ديكتاتورية من ثقافة الطابور.

ولا أدري في حالتنا العربية، هل الراغبون في التغيير يصطفون ليشكلوا معا طابورا ثائرا، أم أن اصطفاف الناس في الطوابير الإجبارية جعلهم يصبحون طابورا راغبا في التغيير ثائرا رغما عن أنوفهم! وليست المشكلة في وجود الطوابير الأربعة، ولا بوجود الطابور الخامس، المشكلة أنه بعد ثورتنا للخروج عن نظام الطوابير، بدأت هذه الطوابير بالتكاثر الهستيري، بالانشطار كالبرامسيوم، وبالتجدد كهدرية الماء العذب، وبالبيض كالدجاج، وبالولادة كأنثى الثعلب، وبالتبرعم كالفطر، وكل الطرق الممكنة للحفاظ على النوع. فأصبح عندنا الطابور السادس، والسادس والستون، والطابور الستمئة بعد الألف، وما زالت الطوابير تتكاثر، كلها تحاول إنتاج موجة، لكنها ضعيفة وليست ذات أثر، وكلها تسخر من الطوابير الأخرى، ولا تعترف بها، وكلها تلصق بالطوابير الأخرى أنها طابور خامس.

ومصطلح الطابور الخامس يصف حرفيا وفق المراجع، مجموعة من الناس تعمل غالبًا على محاولة محاصرة المدينة من الداخل، وتكون إما في صالح جماعة العدو أو في الدولة. أنشطة الطابور الخامس قد تكون علنيةً أو سريةً، وفي بعض الأحيان تقوم هذه القوات السرية بمحاولة حشد الناس علنًا لمساعدة هجوم خارجي. ويمتد هذا المصطلح أيضا إلى الأنشطة التي تنظمها الأفراد العسكريين، ويمكن لأنشطة الطابور الخامس السرية أن تنطوي على أعمال تخريب وتضليل وتجسس، يُنفذها مؤيدو القوة الخارجية ضمن خطوط الدفاع بكل سرية.

كان يجب على هذه الطوابير أن تشكل موجة واحدة، وقوة واحدة؛ لتنسف هذا النظام الطابوري، لكنها نقلتنا من طابور طويل إلى طوابير أقل عددا، متناحرة فيما بينها. إن ثقافة الطابور، هي حالة متطورة عن ثقافة القطيع، وبالتالي فإن ثقافة القطيع أكثر تحررا في التعامل مع الأتباع، وأقل ديكتاتورية من ثقافة الطابور.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.